السراج المنير: عالمية الدعوة الإسلامية ج2 "عام الوفود"

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد، فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته. حلقة جديدة من حلقات برنامجكم
السراج المنير مع فضيلة الإمام العلامة الدكتور علي جمعة مفتي الديار المصرية. أهلاً ومرحباً بك، أهلاً وسهلاً بكم. في الحلقة الماضية مولانا كنا نتكلم، فضيلتك كنت تشرح لنا عالمية الدعوة الإسلامية، ووصلنا إلى وفد بني تميم عندما جاءوا لرسول الله وقالوا: "إن مدحنا زين وذمنا شين". بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. كان سيدنا رسول الله صلى الله. عليه وسلم يقول نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم وكان يقول أيما رجل خاطب الناس بما لا تدركه عقولهم إلا كان فتنة عليهم فكان صلى الله عليه وسلم يتكلم ويتجاوز عن بعض التجاوزات والإساءات من الناس إلى أن
يصل إلى المقصود من تبليغ الدعوة لأنه لا علاقة له بكل هذا إلا من قبيل تبليغ الدعوة، لما جاء وفد بني تميم ولهم عادات وتقاليد قد تخالف قريشًا وقد تخالف يثرب بأنصارها أوسها وخزرجها، فيهم شيء من الجفاء أو الجفاف في الكلام وكذا إلى آخره، فلما جاءوا نادوا: "يا محمد، اخرج إلينا فإن مدحنا زين وإن سبنا". شين يعني طِبْ ما علاقة أن تأتي وتهجم على المرء وتقول له هكذا؟ لما سمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عليهم وقال لهم: "إنما ذلكم الله عز وجل، فما تريدون؟ الذي مدحه دائماً زَيْن، والذي مخفته
وسبه دائماً شين هو الله"، يعني معنى ذلك أنه ليس هناك من البشر أيها الناس من بني تميم، الكامل الذي يُعدُّ مدحه زيناً، بل قد يكون مدحه خطأ أصلاً، أي وسبه شيناً، بل قد يكون سبه - يعني ينبغي أن يكون - لأنه انحرف عن أمر الله أو عن عمارة الدنيا أو عن نفع الناس. قالوا: نحن ناس من بني تميم جئناك بشاعرنا وخطيبنا. لنشاعرك ولنفاخرك جاؤوا يتحدون، هل جاؤوا ليتخاصموا أم جاؤوا ليفعلوا ماذا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بالشعر بُعثنا ولا بالفخار أُمرنا ولكن هاتوا". أنا لا أقول إنني من الشعراء والفخر متروك،
"ولا تزكوا أنفسكم"، لكن على فكرة لا تظنوا أنني ضعيف، لا نخاف. يعني أحضروا أحضروا يعني ابدؤوا انظروا ما الذي يريحكم وسنفعله، ولكن أحضروا تفاخراً، يعني هم يقولون شيئاً فيقوم النبي يرد عليهم، فقام منهم الأقرع بن حابس. الأقرع بن حابس هذا أيضاً كان فيه جفاء قليل هكذا، فقال: "يا هؤلاء ما أدري ما هذا الأمر، تكلم خطيبنا فكان خطيبهم أرفع صوتاً". وأحسن قولاً وتكلم شاعرنا فكان شاعرهم أرفع صوتاً وأحسن قولاً. وسيدنا النبي كان حوله حسان بن ثابت وكان حوله عمر بن الخطاب وكان حوله علي بن أبي طالب البليغ، فكان مع
الصحابة يعني فيهم أناس فصحاء وخطباء مفوهون. فلما تفاخر الطرفان، هذا يقول وذاك يقول الشعر. قال لأن النبي لم يكن يقول شعراً عليه الصلاة والسلام. النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان عندما يأتي ليستشهد بالشعر، يجعله ربنا سبحانه وتعالى يعني لا يكمل الوزن، فيكسر الوزن. يقول مثلاً: "أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب". هو "أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد". أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب. لماذا عبد المطلب؟ كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلاً يقول: "ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً، ويأتيك بالأنباء من لم تزود، ويأتيك بالأنباء من لم تبع له بتاتاً،
ولم تضرب له وقت موعده هذا". الشعر السليم هكذا فكان النبي عليه الصلاة والسلام يقول ماذا: "ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ويأتيك من لم تزودِ بالأخبار". فكان أبو بكر يقول له: "يا رسول الله ليست هكذا". يقول: "إذاً فماذا يقول؟" "ويأتيك بالأخبار من لم تزودِ". قال: "هي هي"، يعني عندما وضعنا هذه أولاً وهذه آخراً. ما هي إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن شاعرًا، فالمهم أنه لما تفاخر الطرفان وكان من هنا شاعر ومن هناك شاعر، فقام الأقرع بن حابس فقال هذا الكلام، قال: "الله! ما الذي يحدث؟ هؤلاء الناس أقوى منا"، ثم اقترب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول
الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يضرك ما كان قبل هذا" ما شاء الله. لأن الأقرع بن حابس كان شديداً في حياته، لكن لما أسلم ودخل الإسلام، فالإسلام يجبُّ ما قبله وبدأت صفحة جديدة مع الأقرع بن حابس يعني. هنا يا مولانا بعد إذن فضيلتك، المفاخرة والشعر كان نوعاً من أنواع الدعوة العالمية لدخول بعض بني تميم في الإسلام. ولذلك بعض علمائنا المعاصرين يقول لك أنه في سبيل الله التي هي مصرف من مصارف الزكاة، يجوز أن نفتح بها مجلة في إنجلترا، نعم، أو نفتح بها إذاعة في... أمريكا أو نفتح بها راديو في هولندا لماذا؟ قال لأن هذا في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، أما أن تكون باللسان وإما
أن تكون بالسنان. جميل! فمن هنا، من هذا المعنى الذي تفضلت به، يأتي هذا أن أمامنا جهاد في سبيل الله وأن هذا الجهاد. بالدعوة التي منها التفاخر والتي منها الشعر والتي منها الخطابة والتي منها الإقناع والجدل وغير ذلك إلى آخره، "وجادلهم بالتي هي أحسن"، فنعم هذا جزء من أجزاء الدعوة، وهذا نموذج لِمَا كانت المدينة قد تمحضت للمسلمين، لم يمنعوا الوفود من أن تدخل فيها، بل كان هناك بدأت علاقات دولية بين هذه. الدول التي تمحضت للمسلمين وبين الأقطار كلها رأينا قبل ذلك كيف أنشأوا عهد الحديبية، رأينا
بعد ذلك سنرى أنهم ذهبوا إلى خيبر وانتصروا عليهم وفعلوا وفعلوا، رأينا عام الوفود وكيف حصل في كل هذا، إنما هو في النموذج الرابع الذي تمحضت الدولة فيه للمسلمين. سيدنا كان بعدما الناس كانت تسلم يا مولانا، كان سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام يقول للصحابة ماذا يفعلون مع الناس الذين أسلموا، يعني هل يتركهم هكذا أم يصنع لهم دورات تدريبية تعليمية؟ يعني كيف كان يتصرف عليه الصلاة والسلام؟ فقط أرجو منك. النبي صلى الله عليه وسلم كان من البداية وهو في مكة أرسل. مصعب بن عمير من أجل أن يُعلِّم الدين للناس، كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول: "فقِّهوا إخوانكم، فقِّهوا إخوانكم، فقِّهوا
إخوانكم". عليه الصلاة والسلام "فقِّهوا إخوانكم" هذه تشتمل على قضايا التعليم والتبليغ. النبي صلى الله عليه وسلم عليه الصلاة والسلام كان هو يقوم ابتداءً بالتعليم، حسناً يا مولانا. نخرج إلى فاصل من أجل الوقت ونعود لنستكمل كيف كان رسول الله يفقه المسلمين إن شاء الله، فاصل ونعود إليكم فابقوا معنا. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، عدنا إليكم من
الفاصل، الجزء الثاني من حلقة اليوم من برنامجكم السراج المنير مع فضيلة الإمام العلامة الدكتور علي جمعة مفتي الديار المصرية في نهاية. الفاصل يا مولانا في الجزء الأول وصلنا إلى أن رسول الله عليه الصلاة والسلام كان يأمر الصحابة أن يفقهوا إخوانهم من الوفود التي تأتي وتسلم، هكذا كان يعني عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل بعض الصحابة يعلم بعضًا. حديث "فقهوا إخوانكم" رواه الطبري في تهذيب الآثار وهناك. أيضاً كان هو سيدنا النبي عليه الصلاة والسلام يقوم بالتعليم بنفسه، فيأتيه وفد عبد القيس مثلاً فأمرهم بأربع ونهاهم عن أربع. لما أسلموا أمرهم بالإيمان، قال: "هل تدرون ما الإيمان بالله وحده؟" قالوا: "الله ورسوله أعلم". قال: "شهادة أن لا إله إلا
الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء". الزكاة وصوم رمضان وتعطي الخمس من المغنم، يعني في حديث وفد عبد قيس: "وتعطي الخمس من المغنم"، الغنائم يعني. اعتبر هذا تعليماً وتطبيقاً للإيمان، ونهاهم عن الدباء والحنتم والمزفت والمقير. قال: "احفظوه وأخبروا به من وراءكم". هذا هو التعليم، إنه يربي ويعلم لكي يذهبوا ويعلموا هم آخرين الدباء والحنتم والمزفت والمقير. هذه كانت أدوات الدِّباء الذي هو القرع العسلي. القرع العسلي الكبير هذا كانوا يقطعونه ويخمرون فيه عصير العنب لكي يتحول إلى خمر، يعني يستخدمون ثمرة القرع كإناء،
كوعاء، يعني كوعاء، نعم. الدباء والحنتم والمزفت والمقير، المزفت طبعاً الذي فيه الزفت، والمدهون الذي فيه القار أيضاً، كلها آنية تُصنع فيها أو... تساعد على زيادة البكتيريا وما إلى ذلك حتى يتحول الأمر إلى كحول وإلى خمر. فلنتجنب هذه الأشياء كلها، ولا تقولوا إن الخمر هي عصير العنب فقط. لا، فأي شيء يسبب الإسكار ويحجب العقل فهو حرام. فنهاهم عن كل الوسائل التي توصل إلى هذه الحالة. بعد إذنك يا سيدنا هذا. معناه أن سيدنا النبي عليه الصلاة والسلام كان يعلم تفاصيل حياتهم الاجتماعية أنهم يستخدمون هذه الأدوات: الدباء والمزفت والمقير في أنهم يخمّرون فيها العنب وغيره. بدون شك هو كان صلى الله عليه وسلم قد كشف الله له جميع المعلومات
والحقائق وما إلى ذلك، وكان يخاطب كل قوم. على قدر عقولهم، وعلى قدر ثقافتهم، وعلى قدر معيشتهم. مثلاً عندما جاء نصارى نجران في وفد نجران، دخلوا المسجد عليهم ثياب الحبرة وأردية مكفوفة بالحرير، وفي أيديهم خواتم الذهب. دخلوا عليه مسجده بعد صلاة العصر، فحانت صلاتهم - عندهم صلاة هكذا في العصر بعد العصر - فقاموا يصلون في مسجده نحو المشرق. القبلة ناحية الجنوب، فيكونون قد جعلوا القبلة على يمينهم وصلّوا. يعني في الوضع الحالي للمسجد، يبدو كأنهم استقبلوا القبر الشريف. الآن جعلوا
القبلة على أيديهم اليمنى واتجهوا إلى المشرق، فأراد الناس منعهم قائلين: "ما هذا؟ ماذا تفعلون؟ أين القبلة؟" فقال رسول الله: "دعوهم". فاستقبلوا المشرق وصلّوا صلاتهم في مسجد الرسول. انظر إلى كلمة دعوهم هذه، ماذا تعني؟ لماذا صلاتهم هكذا؟ في الحقيقة، مثلاً: مرة جاء وفد من مكان يسمى تجيب، فلما جاؤوا جمعوا أموالاً، فقال لهم: ما هذه؟ قالوا: هذه زكاتنا، جئنا نسلمها للرسول عليه الصلاة والسلام. فإذاً يقول هكذا، وهذا أخذ منه العلماء فقهاً: "رُدُّوها فاقسموها على فقرائكم". ما شاء الله، فالعلماء اخذوا أن
الأولى في الزكاة عدم نقلها إلا إذا اكتفت الجهة التي هم منها. "خذ من أغنيائهم فردها على فقرائهم". هذا ضد مفهوم الاستعمار تماماً. الاستعمار يدخل بلدك لكي يأخذ أموالك وثرواتك ويبني بها بلاده، لكن سيدنا رسول الله يرجع الأموال التي جُمعت في مكان واحد. ووصلت إلى عنده فعلاً، ووصلت إلى عنده. هلاّ أستعين بها في الجهاد؟ هلاّ أستعين بها في تحسين الأوضاع؟ هلاّ، أليس هناك فقراء في المدينة؟ لا، القضية أن مفهوم الاستعمار مرفوض. نحن ندخل هنا لله، وتقوم كل جهة بنفسها، فإذا اكتفت نُقلت إلى من هو بجوارها. سؤال وقد تجيب يا رسول.
الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء فكتب لهم بها سبحان الله، أي وجعلوا يسألونه عن القرآن وعن السنن، فالنبي عليه الصلاة والسلام سُرَّ بهم وأمر بلالاً أن يُحسِن ضيافتهم، يعني الأسئلة كانت أسئلة لها معنى، كانت أسئلة جميلة، الصحابة ما كانت تسأل رسول الله عليه الصلاة والسلام وابن عباس. يقول ما سألوه سوى ما في القرآن وهو يسألونك عن الخمر والميسر، يسألونك ماذا ينفقون، يسألونك عن المحيض، يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه. يعني يسألونه الثلاثة عشر سؤالاً الموجودين هؤلاء، فكانوا يحبون أن يأتي الرجل من الوفود هذه أو من الأعراب العاقل ليسأل رسول الله حتى يتعلم، فمر.
في وفد من الوفود جاء فقال: "كيف البلاد؟" يعني كيف حال البلد؟ ما وضعها؟ فأجابوا: "يوجد في هذه السنة ضيق"، نعم. فقالوا: "ادعُ الله لنا". والسنة معناها الضيق والشدة في المطر وما شابه ذلك، أي الجفاف. فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه هكذا وقال: "اللهم اسقهم الغيث". ما شاء الله. رجعوا إلى بلادهم فوجدوا البلاد ممطرة، فسألوا أصحابهم: "متى أمطرتم؟" فحسبوها فوجدوها ذلك اليوم الذي دعا
فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. يعني تركوا بلادهم في جدب وجفاف، ورسول الله لم يدعُ لهم أن ينزل المطر لتصبح أرضهم خصبة عندما يعودون إليها. نعم، سبحان الله، كان النبي صلى الله عليه وسلم رحيماً وكان معلماً. وكان يُربي الأجيال، وكان في الوفود - في الحقيقة - حدثت أشياء كثيرة جداً. مرة جاء شخص فقال له: "يا رسول الله، إني أسمع منك وأنسى" - كان من اليمن هكذا - فقال: "اكتبوا لأخيكم". كان اسمه أبو شاة، فقال: "اكتبوا لأبي شاة". فكتبوا لأبي شاة، أي ساعدوه في الكتابة، ما شاء الله، وكان يكون. إذا علم عن طريق السمع وعلم عن طريق الكتابة وعلم عن طريق التدريب وعلم عن طريق الدروس،
فقد كانت هناك دروس يومية في المسجد من أجل التعليم. فهكذا كانت الحياة في هذا الوقت مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. نحن يا مولانا ننتقل بعد إذن فضيلتك في الحلقة. القادمة إن شاء الله الوفود كانت بطاقة المدينة. نريد الآن أن نرى دعوة رسول الله العالمية بإرسال الرسائل إلى الملوك وإلى الزعماء. نعم إن شاء الله. اسمحوا لي باسم حضراتكم أن نشكر فضيلة الإمام العلامة الدكتور علي جمعة على وعده باللقاء مع فضيلته في حلقات قادمة من برنامجكم السواد المنير، فإلى ذلك. الآن نستودع الله دينكم وأماناتكم وخواتيم أعمالكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.