السيرة النبوية - الحلقة السادسة والأربعون

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع سيرة المصطفى الحبيب صلى الله عليه وسلم نعيش مع أنواره الكريمة الشريفة هذه اللحظات، نستهدي هدايته ونتمتع بأنواره صلى الله عليه وسلم. من سيرته الشريفة ما حدث يوم بدر عندما
نزل النبي صلى. صلى الله عليه وسلم في بدر ذهب يستطلع هو وأبو بكر ما حول المنطقة ووجد بعيراً واستدل به على أن هذا من علف قريش، وهنا يظهر مدى أهمية العلم، بل والعلم الموسوعي. العلم قوة وسلطة، فمن يمتلك العلم والمعلومات هو الأقوى. أدرك أن هذا من
علف قريش، إذاً قريش قريبة هنا. لكن لم تظهر بعد، ووجد ناراً فعدّها وسأل الأعرابي الذي في المنطقة عن أخبارهم: "كم شخصاً كان هنا؟ وكيف كان شكلهم؟" وما إلى ذلك. والأعرابي يجيبه، ثم انصرف النبي، فقال الأعرابي: "سألتني فأجبتك، من أين أنت؟" فالأعرابي يحب الفضول ويحب أن يعرف من أين هذا الشخص وإلى أين هو ذاهب. وذاهب إلى أين لكي يخبر الآخرين أيضاً؟ فقال: "أنا من ماء"
وانطلق، والأعرابي في ذهول قليلاً وهو يقول: "والله لا أدري أمن ماء مصر أم من ماء العراق". الماء عنده يعني النهر، وسيدنا النبي قالها إشارة إلى قوله تعالى: "وجعلنا من الماء كل شيء حي"، شيء من هذا القبيل يعني "أنا من ماء". أي بهذا المعنى، لكن الأعرابي فهمها أنه نهر. النهر موجود أين؟ في مصر نهر النيل، وفي العراق نهر الفرات. قال: "والله لا أدري أمن ماء العراق أم من ماء مصر"، لكنه شبّههم هكذا. ليسوا من هنا ولا من هناك، هؤلاء من إخواننا الذين حولنا. ما هذه القصة؟ يُؤخذ من هذا أن النبي كان لا يكذب لكنه كان لا يُفشي الأسرار، وأن ما قد لا يُعَدُّ
سراً في وقتٍ ما، يُعَدُّ في وقت الحرب سراً. مَن أنت؟ أنا محمد. ومَن هذا؟ أبو بكر. وماذا تفعلون هنا؟ جئنا نقاتل المشركين. الله! حسناً، ألا يعني هذا أن الأمر قد انكشف هكذا؟ هذا فقط. يقول محمد وأبو بكر: انتهى الحال، فما يُعَدُّ سراً في وقت الحرب قد لا يكون سراً في غير وقت الحرب. يقول لك: "ممنوع الاقتراب والتصوير". حسناً، في وقت الحرب هكذا، حتى لو صوَّرنا، وحتى لو كانت لدي صورة لها قبل الحرب، أُخفيها لأن هذا سر وطني. والسلام علمنا أنه ينبغي أن يكون لدينا سر حتى تنجح الأشياء،
وذكرنا أن بعضهم وهو الحباب بن المنذر قال له: "يا رسول الله، اجعل الماء خلفنا"، فجعله خلفه وذهبوا إلى هناك فوجدوا تلة كبيرة هكذا، فبنوا عليها عريشاً - والعريش يعني شيئاً كالمظلة - لكي يشرف سيدنا صلى الله عليه وسلم. على الوادي كله ويرى ما هو آتٍ من هنا وما هو آتٍ من هناك وما هو آتٍ من هنا أيضاً، وهذا العريش جلس فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم بدر، لكنه بُني له في ساحة المعركة، هكذا ثلاثمائة واثنا عشر رجلاً يمشون، فوجد صبياً صغيراً
عنده. خمسة عشر أو ستة عشر سنة، يبدو أنه كان من المرافقين لجيش قريش، فقُبض عليه. نعم، فهو قد دخل المنطقة العسكرية، فيجب أن يُقبض عليه، ويُقبض عليه لأننا في زمن حرب. إن زمن الحرب له خصوصية، وينبغي أن يكون كذلك. الخيانة، الخيانة بئست البطارية لكنها... في زمن الحرب تصل العقوبة إلى الإعدام لأنها تتسبب في ضياع الدين والدنيا والمستقبل، ليس الدين والدنيا فحسب، بل المستقبل أيضاً. قبضوا على هذا
الغلام وحققوا معه، سألوه: "كم المال الذي معهم؟" فقال: "لا أعرف، لا أعرف كم المال الذي معهم". ثم سألوه: "كم عدد الأفراد؟" فقال: "لا أعرف". فضربه أحدهم على قفاه، فالنبي... عليه الصلاة والسلام قال له: "لكن الولد صادق، إنه لا يعرف طبعاً. أهؤلاء كثيرون؟ هو جالس يعدُّهم ولا يعرف. هو يقول لك لا أعرف. انظر في عينيه، وانظر إن كان صادقاً أم كاذباً. العيون تفضح. لا تضربه ولا شيئاً. تعال يا حبيبي، هل ذبحوا؟ هل يأكلون ويشربون؟" قال له: "نعم طبعاً". قالوا. ذبحوا كم جَمَلاً؟ قال
له: عشرة. قال القوم: بين التسعمائة والألف. عشرة، لأنه شدَّ العشرة وذهب بهم وعدَّهم عدًّا عشرة، لكنه ليس معتادًا على عدِّ الألف، فهو فعلاً لا يعرف. فيكون هناك فن للوصول إلى المعلومة، ليس بالضرب ولا بالإهانة ولا بالتعذيب ولا بغير ذلك، بل بإعمال العقل. اسأل السؤال المناسب. إذا كنت قادراً على أن تستنبط الاستنباط المناسب مع هذا، فقال له: "كم يا بني؟ ذبحتم كم جملاً؟" قال له: "ذبحنا عشرة". قال: "القوم بين تسعمائة إلى ألف، يزيدون أو ينقصون شيئاً بسيطاً. ألف أو ألف وخمسين
أو ألف وسبعين، لا يحدث شيء يُذكر". فإذاً الذكاء والعلم تأخذ من هذا الوقوف. عند العلم وإن من يمتلك المعلومات فهو الأقوى. بعد الفاصل نكمل ما كان من سيدنا قبل المعركة. بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. المسلمون ثلاثمائة واثنا عشر مع سيدنا القائد الأعلى، والمشركون أضعاف ذلك ثلاث مرات تقريباً وقد يزيد. المسلمون
معهم فارسان، والمشركون معهم سبعون فرساً. يعني قوة الواحد من هؤلاء عندما يقف سيقف ضد اثنين، لا بل ثلاثة. حسناً، سبعون فرساً، فلنجعل معنا خمسة وثلاثين، لا بل هما فرسان فقط. إذاً، إذا كنا نتخيل أولاً قوة غير متوازنة، فما المزية التي يتمتع بها المسلمون؟ رقم واحد: الإيمان،
رقم اثنان: الموقع، فهم قادمون. صحيح أننا على مسافة مائة كيلومتر، لكننا قادمون مرتاحين ومتدربين، اعتبروها تدريباً، والآخرون قادمون من ثلاثمائة كيلومتر متعبين. المياه معنا لكن ليست معهم، فهذه أسباب القوة الظاهرة. هذه بلادنا لكنها ليست بلادهم. أنا إذا مت سأدخل الجنة، أما هو فلا يعرف إلى أين سيذهب أصلاً إذا مات، لأنه... لا يملك لا جنة ولا نار، ما لديه هو أنه سيفقد حياته، ولماذا
سيفقد حياته؟ ليس هناك قضية بلا معنى، لأن الكرامة والعزة تعني انتحاراً أو ما يشبه الانتحار. أنت تهذي، حسناً سأقتل نفسي، شيء كهذا. أما الآخر فهو يقاتل لكي يدخل الجنة، وهو ما لا يتخيله صاحبنا. الثاني هذا لا يؤمن بالجنة ولا يتخيل أن هناك ناراً، ولا يتصور أن هناك يوم قيامة. فالموت عنده عدم وليس حياة، والموت عند صاحبنا هذا حياة، "وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ". إذاً هذا هو أحياء، هو هنا يبدأ
حياة جديدة بهذه المعركة. وسلب العباد إلى عبادة رب العباد، بدأ دعوته سراً ثم جهر بها وحارب أعداء الله لتبقى كلمة الله هي العليا، وقد ذكر الله لنا صوراً من ذلك في القرآن الكريم. هذه الصورة الوضعية كانت هي مراكز القوة عند المسلمين: الموقع، الإيمان، القضية، والماء إذا صح التعبير. الآخرون قوتهم في... العدد وفي السلاح والضعف الذي لديهم في المسافة وفي الغربة، غربة المكان وما إلى ذلك، وفي قلة الماء. بدأت المعركة باسم الله. قبل المعركة كان النبي في
العريش، والجيوش قديماً كانت خمسة أقسام: الميمنة والميسرة والمقدمة والقلب والمؤخرة. جناحان ووسط، وخلف هذا الوسط قلب، وخلف هذا القلب مؤخرة تحمي الجيش من... نهايته أو من مؤخرته، ولذلك كان الجيش يُطلق عليه الخميس. والخميس يعني الجيش. وسمّوا الجيش بالخميس لماذا؟ لأنه مُخمَّس، لأنه خمسة أقسام. خميس، كل جزء منه له لواء. كان لواء
الجيش كله أبيض، الخاص به هكذا، هو بيضاء، أما كل واحد فيرفع شيئاً. راية لماذا؟ لكي يعرف أن هؤلاء تابعون له. النبي عليه الصلاة والسلام كان في الحروب، وبدأها في بدر، أن يجعل الأصحاب معاً. يجب أن تكون هناك علاقة إنسانية بين المقاتلين. لا تدع المقاتل وهو يقاتل هكذا لا يعرف زميله هذا ولا يعرف زميله ذاك. لا، هذا ينظر هنا والله. إنني أعرفك جيداً، هذا ابن عمي، وهذا ابن خالتي، وهذا أخي، وهذا جاري، فيحدث تثبيت للفؤاد، وإننا ندافع عن شيء ليس غريباً، نحن نعرف بعضنا، وكان يجعل لكل
جزء من يوم الخميس عنواناً أو شعاراً، يا بني عبد الله، من هم بنو عبد الله هؤلاء؟ لا يوجد. هو الشعار هكذا يا بني عبد الرحمن، يا بني عبد الغفور، يا بني... وهكذا شعارات لكل موضع في الجيش، ويجعلهم أقرباء بعضهم. فهو في العريش في الأعلى يراقب تنظيم الجيش بدقة، كل قسم، كل كتيبة من هذه الكتائب يكون لها قائد. القائد واقف في مكانه، والناس نشيطة، وهو يراقب من... فوق ولا يوجد أحد يريد أن يهرب أو يجري
أبداً، ولذلك أهل بدر هؤلاء صنعوا شيئاً عجيباً بإذن الله وبنصرة الله، لأنه أمدهم من عنده بالملائكة تقاتل، لأن ميزان القوة المادية كان مختلاً، فنزلت الملائكة نصرةً وما زالت تنزل لتنصر المؤمنين. فسيدنا في العريش يراقب الحال وهو في العريش يراقب. الحال أن كل الأرض كانت على الشرك أو على مشارف
الشرك. اللهم إن تهلك هذه العصابة. كلمة "العصابة" معناها مجموعة الناس، العصبة، أو قل: القوة. فالعصابة معناها مجموعة الناس، وليس معناها كما هو متداول الآن "عصابة" حيث يقال لك: "تشكيل عصابي". تشكيل عصابي يعني أنهم مشتركون مع بعضهم. إذن فالعصابة تُطلق على... الأتقياء الأنقياء، وتُطلَق على الأشرار أيضاً، فلو كان هناك مجموعة من الأشرار دبَّروا جريمة سوياً، فإننا نسميهم عصابة. أيضاً تُطلَق على هذا وتُطلَق على ذاك، فقال: "اللهمَّ إن تُهلك هذه العصابة لن تُعبَد في الأرض أبداً"، ورفع
يديه حتى ظهر بياض إبطيه، ووقعت العباءة من على كتفه، وقال له أبو... بكر يا رسول الله، كفاك مناشدتك لربك فإنه ناصرك. يعني كلام صديقين، فإنه ناصرك. وبدأت المعركة وفاز المسلمون بإذن الله. إلى لقاء آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.