الظاهر عنوان الباطن | الحكم العطائية | حـ 28 | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، أيها الإخوة المشاهدون والأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من حلقات الحِكَم العطائية. الظاهر عنوان الباطن، ورد في كثير من الأحاديث هذا المعنى. فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أناساً قد غرَّهم بالله الغرور"، والغرور هو الشيطان. يقولون: "نحن نُحسن الظن بالله". لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل، فالعمل بالرغم من أنه ظاهر
إلا أنه دليل على الباطن، ولا يدعي أحد وهو لا يعمل أن باطنه طاهر نظيف، لأن هذا غير الواقع وغير ما... دلنا عليه ربنا سبحانه وتعالى والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا رأيتم الرجل يرتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان"، لأن ارتياد المساجد خاصة في صلاة العشاء والفجر دليل على تمسك هذا الإنسان وعلى تعلق قلبه بالله سبحانه وتعالى، لا يستطيع إنسان أن يخادع كل هذا الخداع، قد يخطئ وقد يكون. في قصور في بعض الأحيان ولكن هذه قضية أخرى، لكن الظاهر دائماً
هو عنوان الباطن. يقول ابن عطاء الله السكندري هذا المعنى في حكمتنا اليوم: "ما استودع في غيب السرائر ظهر في شهادة الظواهر"، يعني ما كان في الداخل فإنه لا بد في يوم من الأيام أن يخرج إلى الخارج. سواء إن كان خيراً فخير وإن كان شراً فشر، وزهير بن أبي سلمى وهو يقول: ومهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تعلم. لأن هذا الذي يحاول أن يخفيه يمكن أن يخفيه بعض الزمن، ويمكن أن يخفيه عن بعض الناس، يمكن
أن يخفيه، يخفي عملاً دون... آخر أما أن يخفي نفسه هكذا دائماً فهذا لا يمكن، بل إنه سوف يظهر على جوارحه وعلى ظواهره ما هو مكنون فعلاً في قلبه وفي صدره. نعرفهم من لحن اللسان، فالذي في القلب في القلب، ولكن زلات اللسان تدل على ما في القلب، ولذلك من أشرقت سرائره أنار الله وجهه. وظواهره لأنه الإشراق الذي بالداخل يؤثر على الخارج، ولذلك كانوا يقولون: من حسن قيام ليله
بالليل حسّن الله وجهه بالنهار. فهذا يصلي ركعات في الخفاء في الليل في جوف الليل لا يراها أحد، ولكننا نرى وجهه مضيئاً ومنيراً وعليه جلال في النهار. كان أحد شيوخ مشايخنا وكان هو الشيخ محمد. راشد رحمه الله تعالى تكلم بإذن الله وهو يعلم بعض طلبته أو وهو يخبر شيخه بأنه كبر في السن ويريد شيئًا يتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى، وكان إمام التفسير في الحضرة
الخديوية لأنه كان إمام الحضرة الخديوية، وكان في هيئة كبار العلماء عندما نشأت سنة ألف وتسع. مائة وإحدى عشرة، وكان يدرس في الأزهر كثيراً من العلوم ومنها التفسير، وكان من مزايا هذا الشيخ رحمه الله أنه كان يحفظ المعجم لسان العرب، لسان العرب هذا عشرون جزءاً كان يحفظه عن ظهر قلب ويستحضره، وجلس في مرة من المرات يفسر حميم، جلس فيها شهراً وهو يفسر كلمة حميم. هذا العالم الكبير المفسر العظيم يقول: "جلست
أربعين سنة أصلي ركعتين بالليل لا يعرف بهما أحد من البشر". فأين زوجته وأين أولاده؟ وأربعين سنة يصلي ركعتين في الليل في السر، هذا عمل في السرائر، لكن الله سبحانه وتعالى كان قد وفق هذا الإنسان وألقى عليه القبول وكان. كل من ينظر إلى وجهه يرى فيه نوره. الشيخ محمد راشد رحمه الله تعالى توفي في النصف الأول من القرن العشرين في الثلاثينيات، ولكن كان يُحكى عنه مثل هذا الزخم. عندما دخل معه الشيخ محمد أمين البغدادي، وكان لدى الشيخ
محمد راشد مكتبة كبيرة ضخمة، فلما دخل بيته... وجد أن هذه المكتبة كبيرة جداً وفيها كل الكتب تقريباً المطبوعة حينئذ، فقال له: "يا شيخ محمد، أنت قرأت كل هذا؟" قال: "نعم". قال: "فأين وجدت قلبك فيه؟ كل هذه معلومات وعلم وفضل وشيء جميل، ولكن أين قلبك في هذا كله؟" قال: "من أجل ذلك أريد أن تعطيني شيئاً أقابل". به ربي وأشعر به بالخشوع والخضوع، وهذا الذي يعني مذكور في الكتب من هذه الأنوار وما إلى ذلك. وكان الشيخ محمد راشد رجلاً منوراً، ولم يلتفت إلى
الركعتين أربعين سنة، يجلس ركعتين ويصلي ركعتين كل يوم في جوف الليل، لم يلتفت إلى أن هذا كان سراً بينه وبين. الله لم يلتفت إلى كل هذا العلم الذي تعلمه وكل هذه الفنون التي كان يتقنها. كان الشيخ محمد راشد رحمه الله تعالى قد سافر إلى تركيا من أجل أن يتعلم تجليد الكتب وتذهيبها. يعني أنت رجل في التفسير، فما بالك، يعني لماذا؟ لأنه محب للكتب ومحب للفنون وللآداب، وكان هؤلاء الناس... لا يلتفتون إلى أنفسهم ولا يعتبرون أن كل هذا الفضل الذي أقامه الله فيه موجب لأي كبر من التكبر، ولذلك يسألون عما يقربهم إلى
الله سبحانه وتعالى، وما استودع في غيب السرائر. غيب السرائر هذه قد تكون في النفوس، وقد تكون في الأعمال التي هي سرهم بينهم وبين الله. الله سبحانه وتعالى ظهر في شهادة الظواهر فإن الله سبحانه وتعالى يظهره، ولذلك لو جئنا في المقابل نجد الأمثال العامية تؤكد هذا. أقول لك مثلاً "الكذب ما له رجلان"، فإن الكذاب يكذب مرة، يتحايل على الناس مرتين، ولكن يظهر كذبه بمرور الوقت، ونعرف أن هذا الشخص كذاب وأن هذا الشخص. فقد مصداقيته، وإن هذا
الشخص حتى لو صدق هذا الكذاب فإن الناس لا تصدقه لأنه قد كذب وكذب وكذب حتى صار الكذب له خُلّة أو سريرة، وهذه السريرة مذمومة لأن النبي صلى الله عليه وسلم عندما سُئل أيكذب المؤمن قال: "لا". الكذب في عصرنا هذا أصبح بلاءً مستحكماً ومما... يُروى من الطرائف أن رجلاً كان يخطب يوم الجمعة، فلما اختار لنفسه خطبة عن الصدق، فرح الناس جداً لأن الخطبة كانت مستوفية وكانت تدعو إلى الصدق. لكنه كررها في كل يوم جمعة، يتكلم عن نفس الخطبة عن الصدق، فسُئل في ذلك: "أليس لديك إلا الصدق؟"
فقال: "أتركتم الكذب؟" حتى أترك أنا الدعوة إلى الصدق إلى لقاء آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.