العزلة | الحكم العطائية | حـ 12 | أ.د علي جمعة

العزلة | الحكم العطائية | حـ 12 | أ.د علي جمعة - الحكم العطائية, تصوف
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة المشاهدون والأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وأهلاً وسهلاً بكم في حلقة جديدة من حلقات الحِكَم العطائية. فيها يقول الإمام رحمه الله تعالى: ما نفع القلب مثل عزلة يدخل بها ميدان فكرة، أي أفضل شيء ينفع القلب، نوع من أنواع الاعتزال. العزلة لها درجات ولها أنواع
ولها محل. أما محلها فقد يكون القلب وقد يكون القالب، أي يمكن للمرء أن يخالط الناس ولكن قلبه منعزل، وفي هذا ورد حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول أحب الأعمال إلى الله سبحة الحديث. قالوا: وما سبحة الحديث يا رسول الله؟ قال: القوم يتكلمون والرجل يسبح. رجل في وسط أقوام فإذا به وهم يتكلمون هو يسبح، قلبه معلق بالله، هو دائم الذكر والطمأنينة وإن كان يخالط الناس في الظاهر. فهذا نوع
من أنواع عزلة القلب، القلب ينعزل وينفصل. عن التفاعل مع الأحداث والجزئيات وفي هذا طاقته ونوره وسره وحضوره ويقظته تكون حاضرة وقوية. ما نفع القلب مثل عزلة يدخل بها ميدان فكرة. عندما ينعزل القلب عن التفاعل مع ما حوله من أحداث وجزئيات وهموم الدنيا وكدرها وشواغلها، فإنه يتاح للعقل أن يفكر، أن يتدبر، أن يتأمل، أن
تتداعى. الأفكار في ذهنه وحينئذ تأتيه واردات من عند الله سبحانه وتعالى ويفتح عليه بفهم جديد بوعي جديد وتأسيس الوعي لازم لتأسيس السعي فكما قالوا الوعي قبل السعي الوعي والسعي فكرة ثم تطبيق رأي ونظر وفتح ووارد ثم سلوك فالوعي والسعي إذا ما تأسس السعي على الوعي كان سعياً دائماً وكان النبي صلى الله عليه وسلم عمله دائم، وكان يحب من العمل الدائم، وتقول عنه السيدة عائشة: "كان عمله ديمة"، أي مستديماً. ويقول: "لا تكن مثل فلان، كان
يقوم الليل ثم تركه". وكان يحب من الأعمال أدومها، ويقول: "أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل". القلب عندما يعتزل القالب عندما يعتزل. فإنه محدد له أربع جهاد للاعتزال، وقالوا طريق الله سبحانه وتعالى يبدأ بقلة الكلام، وقلة الطعام، وقلة المنام، وقلة الحديث مع الأنام. أربعة أمور: الأول يقلل من
كلامه، قلة الكلام. وكما يقول الإمام الشافعي، وقد فهم هذه الحقيقة، يقول: "الكلمة تملكها، فإذا نطقت بها فهي تملكك". والنبي صلى الله عليه. وسلم يورد كثيرا من فضائل الصمت حتى أن ابن أبي الدنيا يؤلف كتابا ضخما فيما ورد عن رسول الله وأصحابه ومن بعده من الأئمة عن الصمت، ويقول في كلام طويل صلى الله عليه وسلم وهو يمتدح الصمت وقلة الكلام: "إذا رأيتم الرجل قد أوتي صمتا فإنما
يلقن الحكمة" يعني الصمت. يجعل هناك تهيئة للإنسان للهدوء لعدم التسرع والعجلة، والتأني والتأمل، مما يجعل الحكمة تنزل عليه. وربنا يقول: "يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤتَ الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً". قلة الكلام مفتاح يأمر به أهل الله المبتدئين في الطريق مع الله سبحانه وتعالى، يأمرونهم بقلة الكلام. قلة الكلام تجعلك تمتنع عن الغيبة وعن النميمة وعن الكذب وعن كثير جداً من آفات اللسان كالسب والشتم والقذف وغيرها من
المصائب وشهادة الزور. قلة الكلام، قلة الكلام تفتح في نفسك الحكمة وينابيع الحكمة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. بعد ذلك قلة الطعام، والنبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "بحسب ابن آدم". لقيمات يقمن صلبة وهو يقول: "وإن كنت لا بد فاعلاً فثلث لطعامك وثلث لشرابك وثلث لنفسك". والنبي صلى الله عليه وسلم في شأن قلة الطعام أمرنا في الحقيقة بما هو برنامج كامل للحمية وبرنامج كامل للصحة وبرنامج كامل أيضاً للعبادة. الطعام مرتبط
في كثرته بكثرة المنام، وربنا سبحانه وتعالى أمرنا بالقيام. الليل وأمرنا بالجهاد في النهار، ولذلك فقلة المنام والتدرب عليها وهي لا تأتي إلا بالتدريب وتأتي شيئًا فشيئًا. لا تستطيع إلا أن تعطي كل جسد عادته، فإذا كنت متعودًا على كثرة المنام فليس فجأة تمتنع عن النوم، فهذا يتعب الصحة ويتعب الجسد، وإن المنبت لا ظهرًا قطع ولا أرضًا. أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، فالإنسان أن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق. وأشد من قلة الكلام وقلة الطعام هي قلة المنام. الأمر الرابع الذي يكون هذه المنهيات الأربعة
أو هذه الطرق الأربعة إن صح التعبير: تركنا المنام وتركنا الكلام وتركنا الطعام، قللنا منهم ولم نأخذ منهم إلا قدر الحاجة. بحسب ابن آدم اللقيمات يُقِمْنَ صلبه، فهذا هو النوم. هم دائماً كانوا يزنونها هكذا على حرف الميم، ها هي: الكلام، المنام، الطعام، الأنام، كلها تنتهي بالميم أو الألف والميم. الأنام معناها هنا العزلة البدنية، فيكون عندنا عزلة للقلب وعزلة للبدن. وعزلة البدن تتمثل في الانكفاف عن الناس إلا لغرض صحيح وإلا... في وضع صحيح وإلى لقاء
آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.