الفقيه .. المفتي .. القاضي | | أ.د علي جمعة

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. ما ليس فيها زواج ونزف من مجتمع القارة تقف بسواد. هناك فرق بين الفقيه والمفتي والقاضي، وهذا الفرق ألّف فيه العلماء. فالفقيه يدرك الحكم، ولكن المفتي لا بد
أن يدرك مع إدراكه للحكم يدرك الواقع، ويدرك بملكة تعد ركناً ثالثاً في الإفتاء وهو كيف. يوقع المطلق الذي في الكتاب والسنة بل المفهوم من كلام الأئمة المجتهدين على الواقع وهو مركب نسبي متغير شديد التدهور شديد التطور فلا بد من هذه الثلاثة للمفتي أن يدرك حكم الله ثم يدرك الواقع ثم يعرف كيف يصل بينهما فيخرج بالإفتاء مراعياً مقاصد الشريعة ومراعياً مصالح الناس ومراعياً
إجماع الأمة ومراعياً قوانين العربية ومراعياً مآلات فتواه إلى ما تقول، فإذا لم يراعِ ذلك وضرب بذلك كله عرض الحائط، فلم يسأل في إدراك واقع ولا فيما تؤول له الفتوى من المصالح والمفاسد، ولا يراعي الإجماع فيقف سقفاً لا يتعداه، ولا يلتزم بقوانين العربية، سُمي بالمفتي الماجن، وأمرنا علماؤنا عبر القرون بالحجر عليه إذا من يهرف بما لا
يعرف ويتصدر قبل أن يتعلم فجزاؤه المنع وليس في المنع إهانة. ليس كل من تعلم الفقه وأدرك معانيه وحفظ أحكامه عرف الواقع. ويقول الإمام القرافي في كتابه الماتع "الأحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام": انظر الفتاوى شيء والأحكام شيء، ما الفرق بينهما؟ إدراك الواقع، فلو أنني فقيه جلست في غرفتي المغلقة وبرجي العاجي مع كتبي أقرأ وأحفظ وأفهم ولكنني لا أدرك الواقع ولا أعرف كيف أفتي هذا وأفتي هذا، فعليّ أن
أكتب لا أن أفتي. فهناك فرق بين التأليف في الفقه وبين إفتاء الناس بما ينفعها في حياتها الدنيا. فإذا خرجت معتقداً أن ما معي يكفي فرات. جماعة العلماء أن هذا فيه فتنة. يقول القرافي: "ومنهم من يقرأ الحكم في الكتاب". الحكم في الكتاب هذا يعني ماذا؟ يعني الذي قاله مالك منذ ألف ومائتي سنة مضت. يقرأ الحكم في الكتاب فيوقعه على واقعه، ينزله على النازلة دون أن يدرك الفرق بينهما. فهو ضال مضل، لماذا
تكلم بالحق في غير موطن الحق؟ ضال مضل. هذا الكلام يعني ليس هناك فيه مفاصلة، فإذا خرج أحدهم وفهم نصاً بطريقة عوجاء من نصوص كثيرة لأبي حنيفة النعمان رضي الله تعالى عنه، فعرف منها وتوهم أن الخمر حلال وأن الوسكي حلال وأن الشامبانيا حلال، فبادر إعلان هذا. الخبر على الناس دلّكم الفرج، فكم من شخص امتنع عن الشرب عشرين سنة وجاءني
يبكي قال: والله من هذه الفتوى رجعت إلى الشرب، فقال: هذا يرضي الله. وعندما تمنع هيئة كبار العلماء غير المتخصصين في الإفتاء الباحثين عن الحق غير الأكفاء من هذه الفتنة، تكون هي المخطئة، وهناك إهانة للأساتذة. الأزهر الشريف ما كان هذا أبداً، نحن نؤتي كل شيء في مناسبته، نضع الرجل المناسب في المكان المناسب. الطبيب لا يكون طبيباً إلا بعد أن يشهد له أساتذته في الطب أنه طبيب، فإذا كان طالباً في السنة الخامسة فإنه لا يجوز له مزاولة الطب أبداً، وهذا
ليس إهانة لطلبة العلم. الشريف الطبي أبداً، هذا لا يكون أبداً، ولا يكون الخلط بين التخصصات فيتصدر كل واحد منهم وهو لا يعرف معنى الفقه والإفتاء والقضاء. أما الإفتاء فعلى ثلاثة أنحاء، يبقى الفقه على نحو واحد: إدراك الحكم الشرعي. الفتوى على ثلاثة أركان: إدراك الحكم، وإدراك الواقع، وكيفية الوصل بينهما. القضاء يغير الواقع. المفتي لا يستطيع أن يغير الواقع. حضرة القاضي ترفع إليه المرأة شكواها وتطلب منه التطليق. الطلاق بيد الزوج، لكن القاضي يسمع شكواها
فيحكم بالتطليق، فتُطلق رغماً عن الرجل وعن رغبته وشهوته. فيقول: أنا لم أطلق، هذا القاضي هو الذي طلق. أحضر امرأة من الشارع ووقع عليها وازمر، فستعتد وستتزوج عند الله. وعند الناس، ولذلك قالوا: حُكْمُ القاضي يُنَفَّذُ ظاهراً وباطناً؛ ظاهراً عند الناس، وباطناً عند الله. وماذا لو أخطأ القاضي؟ إذا أخطأ، فلم يخطئ في حكمه الشرعي، والاجتهاد لا يُنقَض بالاجتهاد، وإلا لن تستقر المعاملات بين الناس. فهناك فارق بين الفقه
وبين الفتوى وبين القضاء. الإفتاء لا يستطيع أن يفعل هذا، يذهب. ويقول: "أنا أرى أنك قد طُلِّقْتِ" بكلامه هذا. وكان ردها: "طيب، وبعد ذلك ماذا أفعل؟" فيقول لها: "ارفعي أمرك إلى القاضي الذي بيده تغيير الوضع". فتذهب إليه وتقول: "يا حضرة القاضي، أريد أن أطلق من هذا الرجل، لقد فعل كذا وكذا وكذا"، وسجن المفتي أفتى لي أن الطلاق قد وقع، ولم يرَ القاضي هذا فحكم. بزوجيتها فهي زوجة له ورفع الخلاف عند الناس وعند الله قدّر هكذا سلطة وضعها الله في يد القاضي، ولذلك عملنا له ماذا إذن لكي نجعله هكذا ندلله قليلاً، أعطيناه حصانة
حتى تكون هناك مهابة، لا أحد يستطيع أن يقبض عليه. حضرة القاضي هذا قاضٍ إذن، لماذا؟ لأن الله وضع في بيده سلطة تغيير الواقع وينفذ حكمه ظاهراً عند الناس وباطناً عند الله.