المجلس الثاني والستون من شرح متن الغاية والتقريب | أ.د علي جمعة

المجلس الثاني والستون من شرح متن الغاية والتقريب | أ.د علي جمعة - الغاية والتقريب, فقه
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. قال المصنف رحمه الله تعالى ونفعنا الله بعلومه في الدارين آمين: فصل: ويصح الصلح مع الإقرار في الأموال وما أفضى إليها، وهو نوعان: إبراء ومعاوضة. الصلح كما في الدليل، والصلح خير وهو
مأمور به. شرعًا بين الناس والشريعة مبناها في تقليل الخصام والصدام والنزاع بين الخلق حتى يتم الاجتماع البشري على وجه لائق للتهيؤ لعمارة الأرض، ولكن يحدث أن الإنسان ينسى أو يخطئ أو يظن، أو يكون له خصم يعتدي على ماله، أو يستدين طرف من آخر ثم يماطل في السداد، ومطل الغني ظلم. يعني لا يؤدي ما
عليه أو نحو ذلك أو يعجز عن السداد فأباح لنا الله الصلح، وعبارة المصنف عبارة دقيقة لأنه قال: "ويصح"، يبقى إذًا القيود بعدها شروط للصحة. ويصح متى تكون صحيحة، يصح الصلح مع، و"مع" هنا أغلب النحاة على أنها ظرف
مستدلين في ذلك بتنوينها فتقول: "جئنا معًا". تنوينها، ورأى بعضهم منهم ابن الحاجب أنها حرف، وابن مالك لا يرى ذلك. ابن مالك لا يرى ذلك، بل يرى أنها اسم لأن التنوين من علامات الاسم وليست من علامات الحرف. يعني عندما تقول "إلى" لا تقول "إلٍ"، وعندما تقول "من" لا تقول "منٍ"، هكذا،
لكن التنوين من علامات الاسم والندى، وقلّ، ومُسندٌ للاسم، تمييزٌ حصلَ. فتكون مميزات الاسم ماذا؟ الجرُّ ومميزات التنوين. هذا هو التنوين، هذا هو بالجر والتنوين. ومن مميزات الاسم أنك تستطيع أن تنادي عليه: يا حسن، يا حسين. فيكون حسن وحسين اسماً في النحو. فيكون إذاً مع اسمٍ لأنها دخلها التنوين، هذه حروف الجر وهي: مِن، في، عن، على، مذ، منذ، رب، اللام، كي، واو، مع، تاء،
والباء، والكاف، ولعل، ومات، يبقى كم حرف؟ عشرون، حرفاً منهم. ماذا معه؟ لا يوجد معه شيء. قال لك: لا، هذه حروف جر. والرجل ابن مالك يقول: هكذا حروف الجر هي العشرون هؤلاء فقط. إذن هو لم ينسَ، فهذا هكذا انتبه، الصلح في الشريعة لا يصح بفض المجالس، ولا يُسمى صلحاً مع الإقرار. ويكون شرطه أولاً الإقرار. فسنذهب إلى حضرة القاضي وأقول له: "يا حضرة القاضي، أنا لي مائة ألف جنيه
عند هذا الرجل". فالرجل هذا معي، فيسأله القاضي: "أصحيح الكلام الذي يقوله مولانا؟" فيقول له: "نعم". صحيح، هذا سيكون إقراراً. هكذا يمكن أن نبدأ الصلح، نبدأ ما يمكن أن يُسمى في الفقه بالصلح. لا بد من الإقرار. حسناً، افترض أنني قلت للسيد القاضي: يا سيد القاضي، لديه مائة ألف عندي. فالقاضي قال له: أصحيح هذا الكلام؟ قال له: لا يا سيد القاضي، ليس
لديه مليم واحد هل تتذكر عندما أخذتهم في اليوم الفلاني؟ قال: أتذكر، لكنني سددتهم في اليوم الفلاني الآخر، وأنت لا تتذكر عندما أخذتهم مرة أخرى في اليوم الفلاني الآخر، وتشاجرنا أمام القاضي، وبعد ذلك هو أصبح، لأنه أيضاً يعني الله فتح عليه قليلاً في المال، فقال له سعادة القاضي: نحن لسنا سنُغضب الشيخ، وهو شيخ مسكين أيضاً. ماذا يستحق منا نحن الناس؟ أن نحمله ونُدلّل عليه، نُدلّل عليه. انظر حضرتك بماذا تحكم وأنا راضٍ. لا يصح هذا، فهذا ليس اسمه
صلح، هذه تُسمى طاعة. هل تفهم سيادتك؟ كأنك تقول أنت يا فاشل الذي ستتصدق! دعني أرى ماذا ستفعل بالشيخ، دعها كما لأجل إنهاء المجلس، دعنا ننتهي، نحن لسنا متفرغين لهذا الكلام الزائد. هذه مئة ألف جنيه، وما الأمر؟ أما أنا فليس في ذمتي ولا مليم، فيكون الآتي أن القاضي قال: "حسنًا، ادفع عشرين ألف وكفى"، فدفع عشرين ألف، وأنا قلت: "حسنًا، لا بأس، خذ من الحمار ما استطعت". أخذ منه ما هو أفضل من الحمار الذي أعطاه، يعني ما يأتي منه أفضل منه. هذا ليس صلحاً، لماذا لا يتصالحون ويُنهون القضية وتزول المديونية ويحكم القاضي ببراءة الذمة؟
قال: لا، ما دام لا يوجد إقرار، فإذاً هذا الصلح الذي سيُسمى صلح فض المجالس ليس صلحاً حقيقياً، بل هو مجرد مجالس لكن الصلح الذي سيُسمى صلحاً لا يكون إلا بالإقرار، فيكون مع الإقرار، وكان الإقرار هو الركن العظيم الذي يتولد عند النزاع بعده الصلح. الإقرار هو الجزء العظيم، ولذلك أهل النحو يقولون ماذا؟ "مع" تدخل على العظيم، قاعدة هكذا، "مع" تدخل على
العظيم، فتقول: جاء الوزير مع السلطان، ولا تقل: الوزير أنت هكذا جعلت الوزير أعلى من السلطان، والحقيقة أن السلطان أعلى رتبة من الوزير، فلا تقل هكذا، هذا خطأ. وهنا استنبط أهل الله لطيفة من قوله تعالى "إن الله مع الصابرين". الله هذا هو الله لا أعظم منه، كيف إذن يكون مع الصابرين؟ يعني هم الصابرون يعني رتبتهم عالية قالوا
لا يقول هذا إلا الله، هذا الكلام ليس من عند محمد. لو كان محمد قاله من عند نفسه، ماذا كان سيقول؟ أن الصابرين مع الله؟ إنه لا يعرف أن ينطق إلا هكذا. الذي يعرف أن يقول ويقدر على هذه المقولة هو الله فقط. لو قلنا لسيدنا النبي أن يقول نعم، هكذا يعني. لن يقول مباشرة هكذا "أنا مع الصابرين"، فيكون ماشياً على قواعد اللغة التي تربى عليها. لكن "إن الله مع الصابرين" هذا كلام ربنا. من أحد أنواع الكشف أن القرآن هذا
كلام ربنا، لا يمكن للنبي أن يقوله. لو قاله لعكس من عند نفسه، أي سيعكس المعنى. وهذه الحكاية ليست معكوسة بل هي حكاية مستقيمة، هو معكم أينما كنتم. نعم، هذه عبارة تخص ربنا، لا يستطيع أحد أن يقول هكذا. فلو كان هو من يعبر لقال: "أنتم مع ربنا" لأن "معه" تدخل على العظيم، لكن "هو معكم أينما كنتم" لا يستطيع بشر أن يقولها، هذه يقولها ربنا إسباغٌ لدرجةٍ عظيمة على الصابرين، ربنا يُعظّم شأن الصابرين، فهو له درجات عنده، كلها يفعل
ما يشاء، منحة ربانية صمدانية أنه يقول لهم إن الله مع الصابرين. شيء عظيم جداً، أول ما يسمعها العربي تندهش عقله، يقول: الله يا له! استعظم هكذا واستحسن، ويصح الصلح مع الإقرار، وإذا لم يكن. الإقرار يكون ما المتبقي، لقد مللنا، نريد أن نذهب ونكتفي. نعم، فيما يخص الأموال، فالمال هو كل ما يُطلق عليه مال سواء كان نقداً أو عيناً، أي في ملكك. وما حقيقة الملك حتى
يكون هذا مالاً لك؟ هي حرية التصرف. حقيقة المال هي حرية التصرف، فأنت يمكنك أن تتصرف في نقداً كما تشاء تخزنه، تشتري به، تدفعه سداداً للديون، تعطيه هبة، تتركه بعدك ميراثاً، مطلق التصرف، تبيع البيت أو لا تبيعه، تؤجره أو لا تؤجره، تمام التصرف. فيكون
هذا مالاً ويكون هذا ملكاً. يكون المال ما وقع تحت الملك نقداً وعيناً، والمال هذا هو عبارة عن الملك، وهذا عبارة عن في الأموال وما أفضى إليها وما أفضى إليها كذلك، يعني مثلاً ما الذي يُفضي إلى المال؟ القصاص وما أفضى إليها. مسألتها بالقصاص: يا حضرة القاضي، هذا الرجل قتل واحداً
من أوليائي، وبهذا الشكل يعني أستحق قصاصاً، فالقاضي قال لي: حسناً، الرجل معترف بأنه ارتكب الجريمة وأنه أخطأ، ولكن... ما رأيك بعد أن أقرّ إقراراً، ها نحن نصطلح. قلت له: حسناً، أنا أقبل لأن الميت كان عزيزاً عليَّ. ديتان وأنا سأُعدم. قال لي: وأنا جلبت ديتين مجهزتين. ويذهب إلى أسرته ليجمع الديتين ليعطيهما. فهناك دية تسمى المخففة، وهناك دية
أخرى تسمى المغلظة، وأنا اصطلحت على هذا. يُسمى صلحاً إذاً إذا كان الصلح في المال وما أفضى إلى المال مثل القصاص، وهو نوعان: إبراء ومعاوضة. اصطلحنا - ما هو سبب أننا ذهبنا إلى القاضي؟ أن أخانا ليس لديه مال، اشترى البيت ولم يسدد ثمنه، اشترى البضاعة ولم يسدد ثمنها، اقترض مني قرضاً ولم يرده، ليس معه مال، سأترك له الربع
ويدفع الثلاثة أرباع لأنني سمعته يقول لي أي أنني أوفر المال لكي أسدد لك الثمن كله، إذاً أمهله شهراً فأنا أترك له الربع. قال له: والله ما في بيتي أي لوم، وفي الشهر الذي تتحدث عنه هذا بدلاً من أن أزيدهم نقصتهم. أكلت وشربت بهم أنا وأولادي، فالقاضي قال لي: "أتوافق يا مولانا على النصف؟"، فوافقت وقلت له: "حسناً، لا أرد لك كلمة يا مولانا القاضي". فوافقنا على النصف، لا يحدث شيء، طيب. فهذا هو الإبراء، أبرأته مما ثبت في ذمته كله أو بعضه، صالحه. فالصلح
والإبراء، أو ما نوع الإبراء؟ الإبراء كيف يكون؟ أن أتنازل عن بعض حقي، فأتنازل عن عشرة في المائة، أو أتنازل عن تسعين في المائة، أو أتنازل عنه كله، فيصبح صلحاً. فالإبراء هو اقتصاره من حقه على بعضه، سواء ربعه أو نصفه أو ثلاثة أرباعه أو أي شيء، ولا يجوز تعليقه على شرط. لا يصح أن يقول له بشرط أنني سأسدد غداً، بل
يجب أن يتم حالاً. يسمون الذي ذهب حطيطة، والجزء الذي تركته يسمونه حطيطة وضعتها عن هذا الشخص، والباقي يكون عاجلاً. وضع عنه نصف دينه وسدده، ففعل هذا. والمعاوضة هي عدوله عن حقه إلى غيره، ويجري عليه حكم البيع، فأترك حقه إلى غيره مثل الرد بالعيوب في البيوع،
ومثل خيار المجلس يمكن التنازل عنه، ومثل خيار الثلاثة أيام يمكن التنازل عنها، وهكذا. الأول يثبت الحق، فأنا اشتريت كتاباً من المكتبة، وعندما فتحته وجدت صفحة بيضاء لم تُطبع، أخذت رقماً ولم تُطبع، فهذا كتاب معيب، وعندما أبيعه سيؤثر ذلك في ثمنه. الرد بالعيب يجب أن يكون فوراً، يعني أنني اكتشفتها يوم الخميس ليلاً وهو
يفتح يوم الأحد صباحاً، فعليّ أن أكون عنده صباحاً بالكتاب. لا أتأخر، فإذا تأخرت سقط الرد بالعيب. ذهبت إليه وقلت له: هذا الكتاب به عيب. فقال: أنا لا شأن لي به. فقلت له: اذهب إلى حضرة القاضي. كان ذلك وهو سليم بمائة جنيه، وهو مع هذا العيب بخمسين جنيهاً. قال له: "حسناً يا سيادة القاضي، أنا معترف بأن هذا الكتاب من عندي وأنه فيه عيب، فإذا ثبت الحق في الذمة بالإقرار فليكن، لكنني لا أملك نسخاً أخرى، فما رأيك
أن أعطيك عشرة جنيهات وينتهي الأمر؟" ونقوم نمشي، قلت والله عشرة جنيهات، حسناً. وأنا أكتب في الصفحة البيضاء ما ينقصني، وأنا لا أهتم بذلك. هذا أيضاً إصلاح لكن ما اسمه؟ المعاوضة، ويأخذ حكم البيع. والله تعالى أعلى وأعلم. ثم نلتقي إن شاء الله بعد أربعة أسابيع من الآن، فإننا في الخفاء العظيم. أي لا تجلسوا. تجلس في درس تلو درس، لا الجمعة القادمة فيها درس ولا التي بعدها ولا التي بعدها لكي تتربى. اللهم يا
ربنا افتح علينا فتوح العارفين بك، وهيئ لنا من أمرنا رشداً، وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، واهدِ إقبالنا، وأصلح حالنا، واغفر لنا لأحيائنا وأمواتنا، وحاضرنا وغائبنا، واحشرنا. تحت لواء نبيك يوم القيامة واسقنا من يده شربة هنيئة مريئة شربة ماء لا نظمأ بعدها أبداً ثم أدخلنا الجنة من غير حساب ولا سابقة عقاب ولا عتاب وأجمعنا على الخير في الدنيا والآخرة