برنامج السراج المنير: النظر للعواقب
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد، فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته. حلقة جديدة من
حلقات برنامجكم "السراج المنير" مع فضيلة الإمام العلامة الدكتور علي جمعة مفتي الديار المصرية. أهلاً ومرحباً بكم يا مولانا، أهلاً. أهلاً وسهلاً بكم يا مولانا في حلقات البرنامج. يا مولانا، لا زلنا مع النماذج الأربعة للتعايش بين المسلمين وغير المسلمين. موضوع الحلقة اليوم يا مولانا عن النظر إلى المآلات والعواقب لهذه الأمور. نريد أن نبدأ الحديث مع فضيلتكم في هذا الأمر. بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا. رسول الله وآله وصحبه ومن والاه عليه الصلاة والسلام، النبي صلى الله عليه وسلم كان قد علمنا النظرة المستقبلية، وهي التي عُرفت في الفقه الإسلامي بعد ذلك بالمآلات. إذا تصرفت تصرفاً معيناً، فما النتيجة التي ستترتب على هذا
التصرف في المستقبل؟ أي ومن هنا ينبغي علينا أن ندرس الواقع وأن... ندرس الماضي وأن ندرس سنة الله في كونه وأن ندرس العناصر المختلفة للتداعيات حتى نصل إلى ما يسمى بإدراك المآل، أي ما ستؤول إليه الأمور، يعني المستقبل. النبي عليه الصلاة والسلام يتعامل مع هذا المستقبل ومع هذه المآلات أيضاً بمقياس ومعيار وبقواعد، فمثلاً "وإن جنحوا للسلم". فاجنح لها وتوكل على الله، حسناً، إذا هم جنحوا للسلم، إذا جنح للسلم فسأجنح لها، ولذلك كان يقول كما ثبت في البخاري صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا يسألوني
خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها". نعم، فهذا الأمر يبين لنا أنه اهتم بالمآل واهتم بدراسات المستقبل. أو يجب علينا أن نهتم بدراسات المستقبل. المثال الذي يجب أن نقف عنده ربما حلقة واثنتين وثلاث هو ما حدث في صلح الحديبية. نعم، صلح الحديبية نسمع عنه كثيراً ونعرفه ونقرأه، لكن هل نحن نتأمل حتى نستخلص منه قواعد ونستخلص منه مواقف ونستخلص منه أسباباً دعت النبي صلى الله. عليه وسلم إلى الحركة إلى مكة بتتبع الأمر في كتب السيرة وما إلى ذلك، يظهر لك أن هناك اتفاقاً
خفياً في الظلام بين اليهود في خيبر بعد طرد اليهود من المدينة في غزوة بني قينقاع وفي غزوة بني النضير ثم في غزوة بني قريظة والحكم الشهير عليهم. خلت المدينة تقريباً من القبائل ولكن لم تخلُ تماماً من اليهود، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت في البخاري مات ودرعه مرهونة عند يهودي، إذاً فبعض الأفراد من اليهود لكن ليست قبائل ما زالوا موجودين، أفراد موجودون في المدينة، والتجمع الأكثر الذي ذهب إليه بنو قينقاع وكثير. من بني النضير كان في خيبر وبعضهم ذهب إلى الشام، خيبر تبعد مائة وستين كيلومتراً شمال المدينة تقريباً، ومكة جنوب المدينة.
وكان هناك ما تشعر به في القراءة أن هناك اتفاقاً سرياً في الظلام بين يهود خيبر وبين المشركين في مكة من أجل الإطباق على المدينة من الشمال والجنوب مرة واحدة. واحدة للقضاء على الإسلام والمسلمين وللقضاء على دولة النبي صلى الله عليه وسلم يصنعون عليه كماشة كما يقولون، يصنعون عليه كماشة باللغة العسكرية. أي الدراسات المستقبلية والنظر إلى المآل والتصرفات الاستباقية. جميل إن شاء الله، في سنة ستة، في مثل ذي القعدة، قال: أنا أريد أن أعتمر ولا أريد. حربًا عليه الصلاة والسلام فنزل بصحابته والسيوف في أغمادها
وهكذا إلى آخره، ومُحرمًا لأجل ذلك وملبيًا ليصل إلى البيت الحرام، ومصطحبًا معه الهدي، أخذ الهدي معه، الهدي وكل شيء. نعم، حسنًا، المشركون لم يفهموا هذه الخطوة، قومٌ عندهم تكبر هكذا، يعني تفاخر في غير مكانه وتعالٍ في غير موضعه، يعني ما... لم يفهموا أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يفك الكماشة، نعم كماشة مكة وخيبر، فهو نازل وكأنه يشعر أنهم سيعترضونه وأنهم سيمنعونه. ماذا لو أن المشركين تركوه وتركوا أصحابه، فيدخلون ويؤدون مناسكهم كما يفعل
كل العرب الذين يحجون، فما كان هناك أي داعٍ للنزاع ولا الخصام ولا أي شيء. لكنّ الله طمس بصيرتهم فجاؤوا واعترضوه. فقال لهم: "توقفوا هنا، أنتم لن تفعلوا ذلك". وقال لهم: "نحن لم نأتِ لقتال أحد، ولكننا جئنا معتمرين". فبدأ يقول: "يا جماعة، أقترح عليكم شيئاً، لنجعل بيننا وبينكم هدنة، فإنّ قريشاً قد أنهكتها الحرب وأضرّت بها، فإن شئتم ماددتكم". مدة وجعلوا بيني وبين أناس ولا داعي أن نتقاتل. بالله، هذه
فكرة المعاهدة موجودة. أي، لا أبداً ولا نتركك ولا تدخل ولا كذا. أنت هكذا ستكسر أنفنا أمام العرب كلها. تفاخرات وعنجهية لا ضرورة لها. فهناك إذن مفاوضات والكلام طويل جداً في الحديبية تحتاج دراسة. أيضاً كما قلنا النماذج التي تحتاج. إلى دراسة وثيقة المدينة كموقف حاطب بن أبي بلتعة ورواياته كالحديبية تحتاج إلى دراسة كبيرة. سهيل بن عمرو جاء يكاتب النبي صلى الله عليه وسلم واتفق معه بعد كلام كثير في هذه القصة. فالنبي عليه الصلاة والسلام قال له: "حسناً، لا بأس، لن يحدث شيء، نكتب معاهدة ونعود إلى
المدينة وبعد". هكذا نأتي إليك العام القادم أو شيء من هذا القبيل، فستكون عمرة القضاء. قال له: حسناً. سهيل بن عمرو هذا، هل له ابن أسلم؟ نعم، ويبدو أن سهيلاً لا يعرف أن الولد أسلم. أبو جندل، نعم. فابنه الذي أسلم هذا سنتركه جانباً لنرى ماذا سيفعل سهيل في كتابة الصلح. قال له: "اكتب يا محمد"، فسيدنا علي هو الذي يكتب "بسم الله الرحمن الرحيم". قال: "وما الرحمن وما الرحيم؟ لا نعرف ما الرحمن والرحيم". قال له: "اشطب يا علي، اكتب باسمك اللهم". طيب، هذا ما عاهد عليه محمد رسول الله. قال: "لو علمنا أنك
رسول الله ما كان هناك خلاف بيننا وبين بعضنا". قال له: "امحُ يا علي، فإن سهيل بن عمرو متمسك بالكلمة، امحُ يا علي بن أبي طالب" وكتب "محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام". "هل يمكننا أن نأخذ فاصلاً يا مولانا؟" "نعم، لنأخذ فاصلاً لأن هذا الجزء مهم، كتابة صيغة معاهدة الحديبية. فاصل ونعود إليكم، فابقوا معنا. السلام" عليكم ورحمة الله، عدنا إليكم من الفاصل، الجزء الثاني من حلقة اليوم من برنامجكم "السراج المنير" مع فضيلة الإمام العلامة الدكتور علي جمعة مفتي
الديار المصرية. قبل أن نخرج إلى الفاصل، يا مولانا، كانت فضيلتكم تخبرنا عن كتابة صيغة صلح الحديبية، وأن سهيل بن عمرو اعترض على "بسم الله الرحمن الرحيم". امحُ يا علي امحُ واكتبها باسمك اللهم، هذا ما عاهد عليه محمد رسول الله. قال له: لا، لا أعرف رسول الله. فقال: امحها يا علي. قال: والله لا أمحوها أبداً. سيدنا علي رفض، وهنا يستنبط العلماء من هذا الموقف أن الأدب قد يُقدَّم على الامتثال، والاتباع على الطاعة يعني. تنفيذ الأمر يعني مثل سيدنا أبو بكر عندما قال له كان يؤم الناس ثم دخل رسول الله فتأخر، فقال له: "مكانك يا أبا بكر". فتأخر، لم يرضَ أن يطاوع، غير قادر نفسياً أن يتقدم على رسول الله. فهنا استنبطوا منها ماذا؟ تقديم الأدب على الاتباع.
بمعنى ماذا؟ مثل ماذا؟ هل نقول... في التحيات مثلاً "اللهم صلِّ وسلم على سيدنا محمد" ولا نقول "على محمد" - هو الذي ورد "محمد" وكلمة "سيدنا" هذه أدب - فقالوا لا نضع "سيدنا" لأنه لا يجري شيء، لأن الأدب قد يُقدَّم على الاتباع، واستدلوا بهذه الأحاديث - ما شاء الله ما شاء - خاصة وهو يقول "أنا سيد ولد". قال له: "اشتروا بي عائداً أبداً". قال في الرواية: فأخذها النبي، أخذ الصحيفة وحكها بريقه عليه الصلاة والسلام. عليه الصلاة والسلام مسح كلمة "رسول الله" بريقه، فبعض الناس قال: "هذا يعني أن النبي تعلم الكتابة، لأنه ما الذي جعله يعرف أن هذه كلمة رسول الله؟" قالوا له: "لا". هذه كانت آخر كلمة. كان من أذكياء الدنيا، هذا العالم أذكى واحد في العالم صلى الله عليه وسلم. فكانت آخر كلمة فمحاها، فهذا
ليس دليلاً على أنه خرج عن الأمية إلى التعلم وكذا كما ادعاه بعضهم خطأً. المهم قال: هذا معاه "هدى محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو" لكذا. وكذلك سيدنا عمر غضب وقال له: "يا رسول الله، ألسنا على الحق وعدونا على الباطل، فلماذا نعطي الدنية في ديننا؟" فالنبي عليه الصلاة والسلام يرشده قائلاً: "إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري". لم يكن الصحابة منتبهين إلى أن هذا فك للكماشة، نعم، وأن هذا بعون الله تعالى هو. توفيق تام للمسلمين ولسيدنا صلى الله عليه وسلم، أي من أجل أن تنتهي محنة الكماشة هذه بتحييد
مكة، فلا توجد حرب معهم لكي أتفرغ لخيبر، لكي أتفرغ لخيبر، لكي لا أحارب على جبهتين. يعني عقدوا صلح الحديبية وقالوا فيه إننا لا نقاتل وأن القبيلة الفلانية والعلانية هذه تابعة لقريش. والقبيلة الفلانية والعلانية هذه تابعة للنبي عليه الصلاة والسلام، ولا أحد يعتدي على هذه القبائل. فمشى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: "خلاص، سنخلع الإحرام ونحل". فرفضت الصحابة وهم غاضبون، يريدون أن يقاتلوا دفاعاً عن النبي ودفاعاً عن هذا الوضع. فالمهم أن سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أم سلمة وقال لها. انظر إلى هؤلاء الناس، ماذا أفعل بهم؟ إنهم غير راضين بطاعتي. قالت له: لا تغضب، وما المشكلة؟ فضلهم كبير أنهم يتحملون
كل هذا. اذهب واحلق أمامهم، وستجدهم جميعاً قد حلقوا. نعم، إنها تستغل هذا الحال من ناحية الرضا والوضع، أي حبهم له عليه الصلاة والسلام. كيف يكونون غاضبين وهم يحلقون؟ تفرض علينا العمرة هذا المكان، لكن لو رأوه يحلق سيسمحون له بذلك فوراً صلى الله عليه وسلم. فالذي ذهب حالقاً أمامهم فحلق، ورجعوا إلى المدينة المنورة. وخلال السنة، نقض جماعة المشركين العهد وهاجموا بعض القبائل، بكر وخزاعة. فقبيلتا بكر وخزاعة تشاجرتا مع بعضهما وتقاتلتا، والنبي عليه الصلاة. والسلام يعني وجدهم نقضوا العهد فجاءهم في الفتح. كنت فضيلتك أخبرتنا عن أبي جندل ابن
سهيل بن عمرو، وقلت لنا أن نتركه جانباً لكي نتحدث عن موضوعه المتعلق بسيف البحر. طبعاً أبو جندل كان مع سهيل بن عمرو، وهو قبل أن يوقع الاتفاق جاء مسلماً، فعندما جاء أبو جندل مسلماً كان سهيل بن عمرو... كان من بنود الصلح أنّ أيَّ شخصٍ يأتي من مكة مسلماً يردُّه النبي، وأنَّ أيَّ شخصٍ يأتي من المسلمين مرتداً إلى المشركين لا يردُّونه. وقد وافق النبي قائلاً لهم: "لا بأس، إذا كان قد ارتد فليس لنا شأنٌ به، فليذهب في طريقه". هذا صحيح، ولكن هذا الشرط الذي سلّمتُ به له الأجر والثواب. عند الله سبحانه وتعالى بصبره وتحمُّله
البلاء عن المسلمين، عاد أبو جندل مع أبيه سهيل وفقاً لهذا الشرط، ولكنه فرَّ منه إلى جماعة من الفدائيين في الخارج كانوا عند جدة، بالقرب من ساحل البحر. ساحل البحر يعني شاطئ البحر، وكان قائدهم يسمى أبا بصير، وقد كوَّنوا فرقاً أصبحت تقطع الطريق على تجارة مكة وتأخذها. هذه البضائع باعتبار أن أموالنا عندكم سرقتموها فنحن نأخذ الظافر بحقه أو بمثل حقه جزاءً. لقد ظفرت بحقي أو بمثل حقه حتى ضجَّت قريش وقالت للرسول: "خذهم عندك". المسلمون الذين كانوا يذهبون إلى النبي ويعدُّهم ينضمون لأبي بصير: "الله يخليك خذهم، خذهم، لا نريدهم". رجعنا في هذه العبارة. اتضح أننا مخطئون، فالنبي عليه
الصلاة والسلام فرح بهذا وأرسل إلى أبي بصير وقال له: "يا أبا بصير، اجمع الرجال الذين عندك وتعال". وكان أبو بصير قد أصيب، فلما وصله كتاب النبي صلى الله عليه وسلم توفي والكتاب على صدره، رحمة الله عليه وسلم، رحمه الله تعالى، فدفنوه وبنوا عليه. مسجداً أيضاً، كثير من الناس يسألون هل يجوز بناء المساجد على قبر سيدنا الحسين مثل المسجد النبوي وغيره؟ يستدل العلماء بحديث أبي بصير أنه دُفن في سيف البحر وبنوا عليه مسجداً مثل المسجد الذي بُني من قبل على أهل الكهف. أهل الكهف بنص القرآن قال: "الذين غلبوا". على أمرهم لنتخذن عليهم مسجداً، والحديث
رجاله رجال الصحيح، فهو حديث صحيح. بعض الناس يقولون: "لا، هذا حديث ضعيف". لماذا تُضعِّفه إذا كان على شرط الصحة وعلى المعايير الأخرى وكل شيء؟ لماذا؟ لأنه معارض في مفهومه لحديث آخر أخرجه البخاري يقول فيه: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا من قبور أنبيائهم مساجد". فظنَّ المسكين أنَّ "مساجد" هنا تعني جوامع، لكن المساجد هنا معناها يسجد إليه أو يصلي إليها. وقالت اليهود عزيرٌ ابن الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله. فهم قالوا هكذا. طائفة من اليهود عبدت عزيراً، وإن كانت هذه الطائفة غير موجودة الآن. والنصارى قالوا إنه إله فادٍ الذي الذي...
لاموا الله سبحانه وتعالى، والمسلمون لا يدعون إلى هذا، يدعون إلى "قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد". فإذا رأينا أن هناك دولاً يسجدون فيها لمن في القبور، عرفنا أن هناك فرقاً بين بناء مسجد عند قبر وبين بناء وعمل السجود للقبر أو... على القبر، فهذه أيضاً من الأدلة: دليل أبي بصير مع أبي جندل، ومات أبو بصير شهيداً في زمن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وبُني عليه مسجد في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبذلك تتم قصة الحديبية فيما أردنا أن نبيّن. من كيفية التعامل مع الآخر،
بارك الله فيكم يا مولانا. اسمحوا لي باسم حضراتكم أن نشكر فضيلة الإمام العلامة الدكتور علي جمعة على وعده باللقاء مع فضيلته في حلقات قادمة إن شاء الله من برنامجكم "السراج المنير". وإلى ذلك الحين، نستودع الله دينكم وأماناتكم وخواتيم أعمالكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.