برنامج السراج المنير: حسن الجوار

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد، فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته. حلقة
جديدة من حلقات برنامجكم "السراج المنير" مع فضيلة الإمام العلامة الدكتور علي جمعة مفتي الديار المصرية. أهلاً ومرحباً بك يا مولانا. مرحباً. مرحبًا بكم في اللقاء السابق يا مولانا، كنا نتحدث عن القضاء العادل في النموذج الثالث في المدينة في بداية العهد النبوي، وكنا قد وصلنا إلى إعدام بني قريظة. ولكن قبل أن ننتقل إلى النموذج الرابع، نريد يا مولانا أن نعرف في هذه الفترة ماذا كان يحدث في العلاقات الجوارية بين بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. بعض الناس أحب أن يلقي الأنوار والأضواء على سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال القرآن الكريم، لأن القرآن قد نُقل إلينا بلفظه ولم يُرْوَ بالمعنى، بل رُوِيَ كما
هو أيضاً تُرجِم. لحياة النبي صلى الله عليه وسلم ومواقفه وأجاب على مثل هذا السؤال من العلاقات والأسس التي بُني عليها المجتمع المكي قبل ذلك بين المسلمين والمشركين، والمجتمع المدني بين المسلمين والمشركين واليهود، بل ومن دسّ في وسط المسلمين من المنافقين. هناك قواعد تكلم عنها القرآن في هذا الشأن ومن أحسن من... كتب في هذا المعنى وكتب كتاباً مستقلاً هو السيد محمد عزة دروزة وكان عراقياً، ومحمد عزة كان يكتب اسمه كما هو
الأصل "محمد عزة" يعني بالتاء المربوطة، نعم، وكان موسوعي الكتابة والاطلاع، وألّف مجلدين في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم، وهو ملمح قد لا يهتم. به بعض الناس أو يفصل القرآن الكريم عن السيرة. في القرآن الكريم يقول ربنا سبحانه وتعالى: "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهُدِّمت صوامعُ وبِيَعٌ وصلواتٌ ومساجدُ يُذكر فيها اسم الله كثيراً". القرآن وهو ينزل يتحدث عن وجود هذه البيوت من بيوت الله في المجتمع وهي تختص بالديانات المختلفة. الصوامع... البيع والصلوات
في المساجد متنوعة. بيوت الله عند المسلمين تُسمى بالمساجد لأن المسلمين نكاد نكون الوحيدين الذين يسجدون لله رب العالمين بهذا القدر. ماذا يعني ذلك؟ يعني أن السجود موجود في بعض الأديان الأخرى، لكن مرة في العمر أو مرة في الشهر أو مرة عندما يتضرع الإنسان بالدعاء، لكن المسلم ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "وجُعِلت لي الأرض مسجداً وطهوراً". والمسجد هذا يُسمى في اللغة العربية مصدراً ميمياً يصلح للدلالة على الزمان والمكان والحدث. لكن لا يذكر الله سبحانه وتعالى المسجد فقط، بل يذكر معه
أيضاً بقية بيوت الله التي تُحترم والتي يُترك الناس وعقائدهم في أدائها، كالصوامع وكالبِيَع. وكالصلوات، فدلالة هذه الآية في سورة الحج تعطينا ما الذي كان إذا كانت هناك علاقة طيبة بين المسلمين وبين غير المسلمين، مع احترام عبادة الله الواحد الأحد، مع احترام المقدسات، مع عدم ازدراء الأديان. عُمْر المسلمين ما وقعوا في ازدراء الأديان، لا يستطيعون ولا أحد يستطيع أن يشتم سيدنا عيسى لا يَشتُم سيدَنا موسى ولا يَشتُم أيَّ نبيٍّ من الأنبياء ولا أيَّ دينٍ من الأديان حتى الأصنام، حتى الأصنام نهانا الله سبحانه وتعالى أن نسبَّها،
يعني فعلاً الإسلام يعتبر ويعدُّ ازدراءَ الأديان جريمة: "ولا تسبُّوا الذين يدعون من دون الله فيسبَّ الله عدواً بغير علم"، يعني لا تشتم الأصنام التي الحال هو الذي تأسست به العلاقة في المدينة في التعايش بين المسلمين وبين غير المسلمين. انظر قوله تعالى مثلاً: "وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا". لم يقل لتتنازعوا أو لتصطدموا بعضكم مع بعض، بل التعارف. قال الحكماء إن التعارف يذيب جبال الثلج، يذيب جبال الثلج. نعم، يعني عندما ألتقي بك وتلتقي بي. هيا أستمع إليك وتستمع إلي، فتتغير الصورة
الذهنية عنك ويتبين أنك رجل إنسان محبوب طيب جميل، ويتبين أيضًا أن صورتي لديك تختلف، والثلج الذي كانت تسببه الصور المشوهة أو المصطنعة يذوب ولو كان كالجبل. جميل إذن التعارف هذا الذي هو سنة الله سبحانه وتعالى في خلقه وسنة الله سبحانه وتعالى كونه هو الذي كان أساس العلاقة بين المسلمين وبين غير المسلمين، تعالى مثلاً في سورة البقرة وربنا سبحانه وتعالى يقول: "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي"، "لا إكراه في الدين" هذا هو الأساس الذي تعامل به المجتمع المسلم مع غير المسلمين، ولماذا كان لا إكراه في... الدين لأنني
لو أكرهت الآخر على ديني فسيتبعه ظاهراً دون الباطن، دون الحقيقة، دون العلاقة التي بينه وبين الله، فهو منافق صحيح، وأنا أكره المنافق وإنشاء المنافق. أنا لا أُنشئ منافقين، ولذلك تركت له حريته، ولذلك نهيت المسلمين عن أن يكرهوا الناس. أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين؟ احذر من لا تفعل هكذا، "لا إكراه في الدين"، "ما على الرسول إلا البلاغ"، "لست عليهم بمسيطر"، "إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء"، "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"، "لكم دينكم ولي دين"، إلى آخر الآيات التي أسست العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين. لو ذهبنا إلى
ما هو تفصيلاً من هذا نجد في صحيح البخاري مثلاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى غلاماً من اليهود كان مريضاً حتى يعوده. قف هنا، إنه طفل صغير أو غلام يعني شاب مثلاً عنده خمسة عشر أو ستة عشر سنة، ليس شخصية مرموقة، يعني لا هي مرموقة ولا هو من له حيثية مثلاً أو كذا إلى آخره، فهذا النبي صلى الله عليه وسلم يذهب بهذه الروح، روح الجوار. "والله لا يزال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه" أي سيدخله في الميراث. والنبي صلى الله عليه وسلم أوصانا بالجار، وعندنا باب في الحديث اسمه "باب حقوق الجار". فالنبي
صلى الله عليه وسلم كما في البخاري عندما ذهب يعود هذا الشاب أو الغلام فجلس عند رأسه، تخيل النبي في بيت يهودي ويجلس عند رأس المريض، فنظر إليه وقال له: "أسلم". هذه القصة كانت نوعاً من أنواع العلاقة الاجتماعية الراقية، يعني دخلت بيت شخص. وبعد ذلك قلت: الله! أنت لن تُسلِّم الآن؟ الله جميل. حسناً، فلنعرف تفاصيل القصة سيدنا بعد الفاصل، بعد إذن فضيلتكم. نعم، فاصل ونعود إليكم فابقوا معنا.
السلام عليكم ورحمة الله، عدنا إليكم من الفاصل، الجزء الثاني من حلقة اليوم من برنامجكم "السراج المنير" مع فضيلة الإمام العلامة الدكتور علي جمعة وقبل أن نذهب إلى الفاصل، كنت فضيلتك تشرح لنا قصة زيارة الرسول عليه الصلاة والسلام للغلام اليهودي المريض. تلك الزيارة في حد ذاتها تبين لنا العلاقات الاجتماعية، أي عندما ينظر النبي عليه الصلاة والسلام إلى الولد وهو مريض وعنده أبوه، وأبوه أيضاً عنده إجلال للنبي صلى الله عليه وسلم، والعلاقة تسمح له أن
يكون له سلام، أنت لن تسلم يا ولد، هذه علاقة اجتماعية تدل على المودة وعلى أن هناك شيئاً من الحب، طاقة حب كبيرة تكتنف المدينة، والله لا توجد حساسيات، لا توجد حساسيات، فنظر إلى أبيه ونظرته إلى أبيه تعني أمرين: أنه ولد مؤدب متربٍ، وأنه يرغب في نعم، ما شاء الله، لكنه غير قادر من أجل والده، يعني لا يريد أن يكسر خاطر أبيه، وكمال لا يتجاوزه. فقال له: "أطع أبا القاسم". الله هذا الكلام لا يُقال إلا بعد أمور وتمهيدات سابقة. "أطع أبا القاسم" هكذا؟ هل هو بهذه السهولة؟ لا، فالحقيقة أن هذا نتيجة
لمجموعة. كبيرة جداً من الإجراءات والعلاقات كانت في المجتمع تنكشف لنا عند التأمل في مثل هذه الرواية. فأسلم، يبقى الولد فعلاً كان يريد أن يسلم. الولد مؤدب متربٍ، الولد يستأذن أباه. الولد أسلم بمنتهى البساطة، لكن قبل ذلك إجراءات معقدة وكثيرة ومتداخلة نستطيع أن نتفهمها إذا ما تأملنا في هذا الحال. النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول الحمد لله الذي أنقذه بي من النار، كانت يعني زيارة مباركة ما شاء الله. لو دخلنا في تفاصيل أخرى في هذا المقام، كان النبي
صلى الله عليه وسلم عندما يركب دابة وما إلى ذلك، كان يضع وراءه أسامة بن زيد، وكان يحب زيداً. كثيراً لأن زيدًا كان من السابقين، ولأن زيدًا تربى في بيته، ولأن زيدًا هو الذي امتلكه وأعتقه. وزيدٌ هذا عربي، هو زيد بن حارثة. وعندما جاء أبوه يطلبه، قال له النبي صلى الله عليه وسلم - وكان يُسمى زيد بن محمد إلى أن نزل تحريم التبني -: "خذه، ها هو فأبى زيد واختار رسول الله صلى الله عليه وسلم من شدة حبه له أسامة ليصبح ابنه، نعم، أسامة بن زيد من ناحية، وهو أيضاً ابن أم أيمن، أم أيمن بركة مرضعة رسول
الله، وهي التي تركها له أبوه في الميراث وهي مرضعته فهي أمه، فكأن أسامة هذا كان أخا النبي. مِنْ أيٍّ مِنَ الرضاعة لأنه ابن بركة أم أيمن، فأسامة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب لزيارة سعد بن عبادة. كان سعد بن عبادة يسكن في مكان يُسمى بني الحارث بن الخزرج. حدث هذا الأمر في بدايات الهجرة، أي أن النبي لم يمضِ على هجرته سنة، لأن غزوة وهذه الحادثة كانت قبل موقعة بدر، فالنبي وهو يسير ومعه أسامة مرَّ بمجلس فيه خليط من المسلمين. على فكرة، النبي عندما توفي كان عمر
أسامة واحداً وعشرين أو اثنين وعشرين سنة. فعندما نرجع إلى الوراء عشر سنوات، يكون أسامة وهو راكب خلف النبي كان عمره إحدى عشرة سنة، كما نحن... نريده نحن نقرأ ونتخيل المشكلة، نعم نتخيله لأن هذا سيفيدنا في فهم العلاقات ثم استنباط ما يمكن استنباطه من قواعد ثم تطبيقها في عصورنا وفي أحوالنا الحاضرة. فمرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين عَبَدَة الأوثان، كان هناك أناس طبعاً، واليهود، نعم يعني. كان هناك أناس في مجتمع المدينة، يعني مجتمع المدينة، الناس يقولون: هل جلس المسلمون مع المشركين؟ أم أنه منذ أول دخول النبي أصبحت المدينة كلها
من المسلمين؟ أبداً، عندما آخى بين المهاجرين والأنصار، كانوا خمسين من هنا وخمسين من هناك، ومن حضروا المؤاخاة كانوا تسعين، خمسة وأربعين من هنا وخمسة وأربعين من هنا المهاجرين والأنصار عندما دخل المدينة من قباء، جمع في سالم بن عوف في مكان اسمه سالم بن عوف، جمع بمائة. فالقضية كلها أن في مائة واحد، عندما توفي النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليه من في المدينة، فكانوا عشرين ألفاً، عشرين ألفاً، إذن إذا أنا أتصور. ها إن المسلمين في هذا الوقت في السنة الأولى أو نحو ذلك كانوا مائة أو مائتين، يا سيدي لا مانع، لأنه توجد أجيال لاحقة جاءت بعد الأوائل هؤلاء، مائتان ثلاثمائة. حسناً، والذين سكنوا المدينة كم كانوا من عشر سنوات؟ عشر سنوات لا يزيدون شيئاً، يعني هذه فترة
بسيطة. فكانوا حوالي نحو عشرين ألفاً، نعم، إذاً ليس كل الناس هكذا. فانتشر الإسلام تدريجياً، وفي ذلك الوقت عندما وقعت غزوة بدر كما في الرواية، فنحن ما زلنا في السنة الأولى. مرّ النبي عليه الصلاة والسلام على دابته ومعه أسامة على مسلمين ومشركين عبدة أوثان ويهود. وكذلك جالس معهم على عبد الله بن أبي بن سلول، هذه أمه، ولذلك عندما نأتي لنكتبها نكتبها بالألف، نعم، عبد الله ابن ليس فيها ألف، وبعد ذلك ابن سلول فيها ألف، لماذا ابن سلول فيها ألف؟ قال لأن سلول هذه كانت أمه ولم تكن اسم رجل، فهو منسوب إلى أي أنه منسوب إلى أمه أو يُنادى بها، وكان في
المجلس أيضاً سيدنا عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، فالدابة وهي تمشي على الأرض غير المرصوفة آنذاك، فتُثير بعض الغبار. نعم، فقام عبد الله بن أبي بن سلول بوضع شماغه أو غترته أو خماره على أنفه هكذا وقال: لا تثيروا الغبار علينا أيها الإخوة، اذهب وابحث لك عن مكان آخر تسير فيه، فما هنا مكان لك. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته". عليه الصلاة والسلام، هكذا كانت العلاقة؛ شخص يريد أن يشعل الموقف، وآخر يريد أن يقلل أدبه ويخرج عن الحدود، فالنبي والسلام سلم عليه صلى الله عليه وسلم، فكانت
مبنية على نوع من أنواع الصبر. النبي عليه الصلاة والسلام كان اليهود وهم يمشون هكذا يقولون: "السام عليك يا محمد"، فكان يقول: "وعليكم". فالسيدة عائشة تنبهت أن "السام" يعني الهلاك، يعني الموت. قالت: "أنتم تشتمونه"، فقالوا: "بل عليك وعلى أبيك وعلى". قال لكِ يا عائشة أن الرفق ما دخل في شيء إلا زانه وما نُزع من شيء إلا شانه. ألم تسمعيني أقول: وعليكم بهذه الأخلاق وهذا الصبر، فقد كان من لوازم النموذج، نموذج الاختلاط، لأنه في بعض الأحيان يظهر الحُمق من هنا أو من هناك من أجل الصدام وليس من أجل... الوفاق فعلّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الجوار
له حق، وأن التعايش له حق، وأنه أيضاً علينا أن نحل هذه المشكلات بنوع من أنواع الصبر. حسناً سيدنا، سنتوقف الآن لانتهاء وقت الحلقة، وفي الحلقة القادمة بعد إذن فضيلتكم سنتحدث عن إفشاء السلام. لقد أخبرتنا فضيلتكم أن اليهود كانوا عليكم، نريد أن نناقش موضوع إفشاء السلام ورد السلام في الحلقة القادمة بشكل متوسع إن شاء الله، وله قصة طويلة سنذكرها في حلقة قادمة إن شاء الله. اسمحوا لي باسم حضراتكم أن نشكر فضيلة الإمام العلامة الدكتور علي جمعة على وعده باللقاء في حلقات قادمة إن شاء الله. برنامجكم "السواد المنير"، وإلى ذلك الحين نستودع الله دينكم وأماناتكم وخواتيم أعمالكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.