برنامج السراج المنير: خيانة المواطنة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته. حلقة جديدة من حلقات برنامجكم
"السراج المنير" مع فضيلة الإمام العلامة الدكتور علي جمعة مفتي الديار المصرية. أهلاً ومرحباً بك يا مولانا، أهلاً. مرحباً وسهلاً بكم. في الحلقة الماضية يا مولانا، في آخر الحلقة كنت سألت فضيلتك عن خيانة بني قريظة وإعدامهم نتيجة حكم جنائي. ولكنني لا أريد أن أقفز على الأحداث، نريد أن نرجع إلى الوراء ونحن ما زلنا في المدينة في النموذج الثالث، لنعرف الأحداث الخاصة ببني النضير وبني قينقاع وبني قريظة. نبدأ من الأول قليلاً. بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. الحقيقة أننا سنسلط الضوء الآن على العلاقة فيما كان بين اليهود بعضهم مع بعض. اليهود يظهر أنهم مجتمعون، تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى، ولكن في الحقيقة بينهم خلافات وصراعات كثيرة. لا يعلمها إلا الله
سبحانه وتعالى. كان بنو النضير إذا قتلوا قتيلاً من بني قريظة أدوا إليهم نصف الدية، ليست دية كاملة. وكأن بني النضير يرون أن بني قريظة مواطنون من الدرجة الثانية، أي أنهم لا يساوونهم، أي شيء بسيط هكذا أن واحداً... منهم بنصف واحد منا، نعم، في هذه القضية أنهم أعطوا لهم نصف الدية، وإذا قتل بنو قريظة أحداً من بني النضير أدوا إليه الدية كاملة. فذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما
ذهب بنو قريظة إلى النبي صلى الله عليه وسلم كان سبب ذلك أن هناك قتيلاً. حدث بينهم فأرادوا أن لا يدفعوا الدية كاملة، قالوا لهم: "إما أن تأخذوا نصف الدية كما نعطيها لكم، فالدية هي النصف، وإما أننا لن ندفع". وكانت وثيقة المدينة مكتوبة، فذهب الاثنان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتباره الحاكم المدني هنا، لأنه ليس من اليهود، نعم وهم... يثقون في حاخاماتهم وعلمائهم وغير ذلك، ولا يثقون في الأميين. ذهبوا إلى الرسول ليحتكموا إليه قائلين: "ندفع الدية كاملة من كلا الطرفين،
أو أننا ندفع نصف الدية هنا وكذا حسبما اعتدنا عليه"، لأن هذه كانت بمثابة أعراف سابقة. فماذا نفعل في الدولة المدنية الجديدة في هذه الحالة؟ الحادثة طبعاً أدت إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم ساوى في دية القتيل بين بني النضير وبني قريظة. نعم، هذا مواطن وذاك مواطن، وقالوا هذا مواطن وذاك مواطن، فالمساواة تقتضي هذا. الحقيقة أن بعضهم أيضاً حدث في قلبه شيء، خاصة من بني النضير، لأنه بهذا سلبهم ميزة. نستطيع أن نقول إنها ميزة كانت لهم وهي أنهم يدفعون النصف من هذه. حسنًا،
هل النبي صلى الله عليه وسلم له جهة للحكم المدني على المسلمين وغير المسلمين أم أنه مختص بالمسلمين فلا يحكم إلا بين المسلمين؟ سؤال وجيه، يعني هل هذا النبي ديني فقط أم ديني ومدني؟ فهو ليس دينيًا فقط. يصبح حاكماً بين المسلمين وليس له شأن بغيرهم، مرجع إسلامي، مرجعية هكذا فقط للإسلام، لكن ديني ومدني. وهنا نشأت فكرة الدولة المدنية التي لم يفهمها العالم بعد. على فكرة، كلمة "دولة مدنية" هي من اختراع المسلمين. أي الدولة في الغرب إما دينية وإما علمانية، لا يعرفون "السيفل ستيت" (Civil State)، "سيفل" تعني مدني. هم قوم أول ما يسمعون سيفل استيت يظنون أننا لا نعرف الإنجليزية ويقولون لا يوجد لدينا شيء اسمه دولة
مدنية، إنكم تقصدون علمانية، لأن العلماني هو الذي ضد الديني، هو المواجه للديني، النقيض له: ديني وعلماني. قلنا لهم: لا، نحن لدينا شيء اسمه دولة مدنية، استمعوا إلينا إذن وتعلموا لأن... الدولة المدنية ليست دينية. لماذا؟ لماذا ليست دينية؟ لأن الدولة الدينية عندنا نحن معشر المسلمين تحتاج إلى نبي، تحتاج إلى شخص متصل بالسماء، تحتاج إلى شخص موحى إليه يقول لنا ماذا أراد ربنا. وحيث أن سيدنا النبي هو آخر الأنبياء، فليس لدينا دولة دينية لأن النبي لم يعد موجوداً ولا يوجد. نبي ثانٍ، ولذلك فعندنا لا توجد دولة دينية.
من أين أتت فكرة أنه لا توجد دولة دينية؟ من قوله تعالى "وخاتم النبيين"، يعني انتهى الأمر، لا يوجد وحي من السماء ينزل على الأرض. إذاً، أأنتم دولة علمانية؟ قلنا لهم: ولا دولة علمانية، لأن الدولة العلمانية ليس لها سقف تقف عنده. لكن لدينا سقفاً لا نستطيع أن نجتمع ونبيح الشذوذ ولا نبيح الإجهاض ولا نبيح القتل الرحيم ولا نبيح المخدرات ولا نبيح، لا نستطيع أن نفعل ذلك، ولا نبيح الدعارة ولا نبيح ما أبحتموه أنتم في الدولة العلمانية، لأنه ليس لديكم سقف، لا يوجد سقف، فما تتفقون عليه تفعلونه، ولذلك فهنا برزت. فكرة الدولة المدنية التي هي ليست دينية وليست علمانية، وقد درّبنا عليها النبي ونزل
قوله تعالى في شأن اليهود: "سمّاعون للكذب أكّالون للسحت فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين" جلّ جلال الله. فلما... جاء بنو النضير وبنو قريظة والنبي صلى الله عليه وسلم معه هذا التوجيه، فحكم بينهم الحكم أنه سوى في القتلى ما بين بني النضير وبني قريظة، أي وهذا هو مفهوم الدولة المدنية كما أرادها الله سبحانه وتعالى وكما أرادها رسوله. طبعاً عندما يأتي هنا يقول له احكم بينهم أو اعرض. عنهم ما عليه،
هذا ليس في قضية أنه إذا كانوا سيحولونها إلى أمر ديني فأنت تقدم لهم النصيحة أو تحجم عنها. وقد كان عندما تعددت في بلاد المسلمين الأديان من المسيحية واليهودية وغيرها كالهندوس وما إلى ذلك، وتولى المسلمون الشأن، تركوا الأحوال الشخصية كلها إلى هذه الأديان، وبعد ذلك جاءت هذه الأديان وقالت. هل يمكننا تطبيق نظام الميراث الخاص بكم؟ قلنا له تفضل وطبِّقوا نظام الميراث، فتأتي طائفة منهم وتقول: لا، نحن لا نريد هذا النظام، لا تطبقوه. أنتم أحرار، ولذلك كان الإسلام نموذجاً فريداً لاحترام العقائد واحترام الشرائع والنصيحة أيضاً بما هو متاح، وإبداع قضية
الدولة المدنية. حسناً، دعنا نأخذ فاصلاً يا مولانا ونستكمل. الحوار عن تصرفات اليهود في بداية إنشاء الدولة، دولة رسول الله عليه الصلاة والسلام في المدينة إن شاء الله. فاصل وعدنا إليكم من الفاصل، الجزء الثاني من حلقة اليوم من برنامجكم "السراج المنير" مع فضيلة الإمام العلامة الدكتور علي جمعة مفتي الديار المصرية. قبل أن نخرج للفاصل يا مولانا. كنا نتحدث عن بني النضير وبني قريظة في موضوع الدية ونصف الدية. كان اليهود دائماً يستفتون النبي عليه الصلاة
والسلام في الأحكام الجنائية أو الشرعية وتصورين يمكن أن يأخذ حكماً مخففاً. نريد أن نتحدث عن هذه الأمور يا سيدنا. اليهود فعلوا أشياء كثيرة جداً، يعني من المضحكات المبكيات مع سيدنا صلى الله. عليه وسلم في مرة كما في البخاري أن يهودياً اعتدى على جارية، أخذ الحُلِيّ الخاصة بها، كانت ترتدي قطعتين - يقولون عنها الأوضاح، والأوضاح معناها الحُلِيّ - كانت ترتدي قطعتين من الحُلِيّ، فطمع فيهما، فضربها على رأسها بحجر وأخذ الحُلِيّ وهرب. أهلها، وهم يهود أيضاً، حملوا الفتاة وهي مضرجة بدمائها إلى سيدنا رسول الله عليه الصلاة. والسلام مثلما هو القاضي، نعم، يعني هو جهة القضاء التي ستحكم في هذه، هكذا فقط.
البنت كانت غير قادرة على النطق، نعم يقول حملوها وكانت في آخر رمق وقد أصمتت الحديث هكذا، وقد أصمتت، أصمتت يعني لا تتكلم، لا تتكلم، صمت، خلاص فقدت النطق، نعم، فقال لها رسول الله: من قتلك؟ لم تستطع التحدث، فقال فلان: "فالفتاة أشارت برأسها هكذا يعني لا، ليس هو. حسنًا، فلان رجل آخر يعني عليه علامة استفهام، متهم قبل ذلك بنفس الجريمة، يعني هو ذاك؟" إنه يعرض عليها المشتبه فيهم. نحن نطلق عليهم المشتبه فيهم. فأشارت قائلة: "لا". فقال لها: "حسنًا". فلان وواحد ثالث، فقالت له: "نعم، هكذا هو". فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا
الذي اعترفت عليه وثبت، فرُضخ رأسه بين حجرين مثلما ضربها هكذا، ورُضخ رأسها. رُضخ رأسه بين حجرين. البنت ماتت، لكن اقتُص منها لأنه النفس بالنفس والعين بالعين. نعم، اليهود يريدون الاحتكام. لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأمور منها اختباره هل سيحكم بما ورد في التوراة، ومنها كما قلت سيادتك لعله أن يحكم بشيء آخر، ومنها الفتنة، يريدون أن يصنعوا فتنة، كيف؟ إذا حكم بما هو في التوراة يقولون: حسناً، وما فائدتك إذن؟ فنحن الآن لدينا [التوراة]، وإذا حكم بغير ما في [التوراة]. التوراة يقولون لا، لكن في التوراة عندنا غير ذلك وهكذا. وقد ظهر هذا مرة في
قضية الرجم. الرجم الموجود في التوراة أن المرأة الزانية، وكانت مفصَّلة كأنها تُرجم، فأتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: "يا رسول الله، يا محمد". على فكرة، كانوا يقولون "يا رسول الله" وهم ليسوا معتقدين فيه، نعم، رأينا رجلاً قد زنى بامرأة فاحكم. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟" فقالوا: "نفضحهم ونجلدهم". كان يجلس معه حَبْرٌ من أحبار اليهود الذي مَنَّ الله عليه بالإسلام وهو عبد الله بن سلام، نعم، هذا هو الذي نسميه اليوم. الخبير
المستشار الرجل الأكاديمي الذي يطلع على الواقعة ويستعين به القاضي، هذا الخبير قال: "كذبتم أن فيها الرجل، فأتوا بالتوراة وانشروها". فأحضروا التوراة في لفائف هكذا. التوراة في هذا الحديث وفي غيره من الأحاديث ما يثبت أنها تُرجمت إلى اللغة العربية. هم يقولون: "لا، إن الترجمة السبعينية كانت سنة ألف". هجري يعني بعد النبي عليه الصلاة والسلام، ألف ميلادي يعني بعد النبي صلى الله عليه وسلم بنحو أربعة قرون، أربعة قرون، وهو أنه في سبعين عالماً من اليهود في الإسكندرية جلسوا يترجمون التوراة وهكذا، لا مانع، لكن هذه ترجمة أخرى، أما في أيام النبي فقد ترجمها وبالعربية فنشروها، فوضع أحدهم. يده على ماذا؟ قال
له: ها انظر، انظر السطر الذي فوق، انظر السطر الذي تحت. فقرأ ما قبلها وما بعدها وهو معتمد عليه بيده هكذا ومخبيها. فقال له عبد الله بن سلام الخبير الأكاديمي: ارفع يدك. فرفع يده، فإذا فيها آية الرجم. فقالوا: آه، صدقت يا محمد، يعني هذا. لم نكن منتبهين أنها مكتوبة فيها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجم الرجل والمرأة اللذين ثبت إحصانهما وتوفرت فيهما الشروط. نعم، كانوا يحاولون استغلال وثيقة المدينة ليأخذوا ما يستطيعون، ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يحكم بينهم. بالعدل يحكم بينهم بالقسط دون النظر إلى مصالحهم أو أهوائهم أو أي شيء من هذا القبيل. نعم، يعني هنا
عندما سار النبي عليه الصلاة والسلام معهم بهذه الطريقة، بدأ أحبار اليهود يشنون على رسول الله صلى الله عليه وسلم العداوة بغياً وحسداً ضاغنين في قلوبهم وبدأوا يفكرون لما. اختص الله سبحانه وتعالى العرب بهذا الرسول الذي كانوا يعرفونه، يعرفون صفته، يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون. الحق من ربك فلا تكونن من الممترين. هؤلاء الناس فعلوا هذا في الحقيقة ولبسوا الحق بالباطل إلى آخر ما هنالك. من هنا صارت... حكاية أن اليهود مع
هذه البغضاء حزَّبوا الأحزاب ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم، اتصلوا بمكة التي جاءت في بدر وانهزمت، وجاءت في أُحُد وحدث ما حدث فيها. حزَّبوهم من أجل الهجوم على المدينة مرة واحدة، ودعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا لهم أنا... سنكون معكم عليه حتى نستأصله، إذن هذه هي الخيانة العظمى. أرسلت قريش إليهم وتحدثت معهم: "يا معشر اليهود، إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، فمن منا على الصواب ومن على الخطأ، أنحن أم محمد؟" نعم،
في دونه قالوا: "بل دينكم خير من دين محمد، رضي الله عنكم وأنتم أولى." بالحق منه إذا هؤلاء الناس عرفوا الحق حادوا عن الحق ظاهروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طرد بني قينقاع وبني النضير من المدينة أما بنو قينقاع فأظهروا نقض العهد وعرضوا بالحرب فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم بعد غزوة بدر يا محمد لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفراً من قريش كانوا أغماراً لا يعرفون القتال. إنك والله لو قتلتنا لعرفت أننا نحن الناس الذين يهددونك، وأنك لم تلقَ مثلنا. وبدؤوا في مناوشة المسلمين
بالفعل. حسناً، سنعرف يا مولانا ما فعله بنو قينقاع وبنو النضير، وفي النهاية خيانة بني قريظة في الحلقة القادمة إن شاء الله، إن شاء الله. إن شاء الله، اسمحوا لي باسم حضراتكم أن نشكر فضيلة الإمام العلامة الدكتور علي جمعة على وعده باللقاء مع فضيلته في حلقات قادمة إن شاء الله من برنامجكم "السرادق المنير". وإلى ذلك الحين، نستودع الله دينكم وأماناتكم وخواتيم أعمالكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.