برنامج السراج المنير: رد الجميل

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد، فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته. حلقة جديدة من حلقات برنامجكم
"السراج المنير" عن التعايش مع الآخر، مع فضيلة الإمام العلامة الدكتور علي جمعة مفتي الديار المصرية. أهلاً ومرحباً بك يا مولانا. أهلاً وسهلاً بكم. في اللقاء السابق يا مولانا وصلنا إلى أن النجاشي أعطى مهراً قدره أربعمائة دينار لسيدتنا أم حبيبة وأرسل ابنه إلى النبي عليه الصلاة والسلام. نريد أن نتحدث عن رد فعل الرسول عليه الصلاة والسلام لهذه الأمور. بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على... سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، أنا وأنا أتأمل في نموذج الحبشة ومواقف سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أشعر أنه كان يربي الصحابة ويربي الأمة من بعدهم على أخلاق معينة. بعض النظم والجماعات للأسف في عصرنا الحاضر يربون الناس على عكس هذه الأخلاق
ويُخرجون ضغائن الناس ويربونهم. على حب الانتقام والتشفي لا يربونهم على هذه الأخلاق العالية التي كان يربينا عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم. رسول الله هيا بنا نقارن بينه وبين بعض المواقف في عصرنا الحاضر في هذه التربية. عن أبي قتادة رضي الله تعالى عنه قال: لما قدم وفد النجاشي على رسول الله. صلى الله عليه وسلم فكان يخدمهم بنفسه. الله! تخيل أنه عندما وفد النجاشي إلى قوم النبي عليه الصلاة والسلام، كان يقدم لهم الطعام
والشراب بيديه الشريفتين. هذا سيدنا الرسول، هذا قائد الأمة، هذا حبيب الرحمن، هذا صخرة الأكوان. إنه شيء مختلف تماماً. فقال له أصحابه: "يا رسول الله، نحن نكفيك". يعني الصحابة مستغربون أنهم موجودون ثم النبي يقدم الطعام والشراب وكذلك الإكرام بأيديهم، فقال أنهم كانوا يكرمون أصحابي وأحب أن أكافئهم. القضية ليست قضية أنكم تخففون عني، بل القضية أنني أريد أن أعطيهم مكانة كبيرة. تخيل أن قائد الأمة يقدم بيديه الشريفتين، سيد الأكوان، فيريد أن... يشكره لأنه كما قال صلى الله عليه وسلم: "لا يشكر الله من لا يشكر الناس". هذه
التربية التي رد بها أصحابه حينما علمهم أن هذا فيه إكرام لهؤلاء الذين أكرموا أصحابهم، ليس أكرموه هو، بل أكرموا أصحابي. فيها نوع من أنواع بناء الحب وليس بناء الكراهية، بناء التواضع وليس. بناء التكبر فالنبي صلى الله عليه وسلم في موقفه مع أهل الحبشة كان دائماً يُبرز، أي هذا موقف، والموقف الثاني هو صلاته على النجاشي بالرغم من أنه كان غائباً، وهو يرسل إليه ابنه، والنبي صلى الله عليه وسلم يعلم هذا الابن ويحسن وفادته، موقف آخر
أيضاً أنا كل... إننا نرى كيف كان سيدنا الرسول يبني أصحابه، ويعلمهم التواضع والكرم ورد الجميل والشكر وما إلى ذلك. لقد رد الجميل لهذا الوفد كما ورد في صحيح البخاري. كان رسول الله يتحدث مع أصحابه أحياناً ببعض ألفاظ الحبشة، نعم، كان يقول "سناه سناه" أي "حسن حسن"، و"جود جود". مثلاً يعني ومن هنا استنتج العلماء أنه يجوز للعرب أن يتكلموا ببعض الألفاظ الأعجمية من غير كراهة ومن غير أن يلوي لسانه، لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يتكلم ببعض ألفاظ الحبشة. هذا الكلام في حديث أم خالد بنت خالد تقول قد قدمت من أرض الحبشة.
أتى النبي صلى الله عليه وسلم بثياب فيها خميصة سوداء صغيرة فقال: "من ترون نكسو هذه" يعني شيئاً صغيراً للباس، فسكت القوم. قال: "ائتوني بأم خالد" فأُتي بها تُحمل، يعني كانت تبدو متعبة فأتوا بها وهي هكذا. هي فعلاً كانت صغيرة لكنها كانت واعية للحدث، يعني أم خالد كانت... صغيرة فعلاً في هذا الوقت فأتى بها فأخذ الخميصة بيدي فألبسنيها وقال: "أبلي وأخلقي". وكان
في هذه الخميصة السوداء علم أخضر وقال: "يا أم خالد هذا سناه"، فهي حاجة جميلة، لكنها لم تكن واعية وكانت في الحبشة، فعارفة كلمات وتعرف "سناه" يعني ماذا، فهي الصغيرة التي... إنها يعني محمولة، ويبدو أنها كانت أربع أو خمس سنوات، أو أكثر من ذلك، بحيث أنها كانت مريضة فحُملت إليه عليه الصلاة والسلام. فسيدتنا أم خالد تتذكر هذا، وتتذكر الخميصة، وتتذكر أن فيها علمًا أخضر، وتتذكر قول النبي "سناه سناه". في الحقيقة موقف. النبي صلى الله عليه وسلم كان يشكر أصحاب الجميل عليه الصلاة
والسلام. فعندما نأتي ونجد أن أصحاب هذا الجميل ينتمون إلى دولة ليست دولة إسلامية، بل هي دولة أكرمت الصحابة وغيرهم، أتذكر في هذا المقام - للمقارنة فقط - عندما رحب السادات رحمه الله وأكرم شاه إيران. يقال إن شاه إيران وافق على الدخول، فقالوا له: لماذا هذا؟ إن إيران ستغضب بسبب ذلك. والرجل لم يكن بتلك القدرة مع شعبه هناك، وبالتالي ستغضب إيران. فقال: يا جماعة، الشام أنقذ مصر وحوّل سفن البترول في أيام حرب أكتوبر من أزمة محققة، وكان ذلك سبباً
في الدعم الذي... أدى إلى نصرنا على عدونا. رجل صنع لي هذا الجميل ألا نقول له "متشكرين"؟ سبحان الله! نحن لا نتدخل في كون الشاه جيداً أم سيئاً، مسلماً أم كافراً، هكذا أم هكذا. وبعد ذلك كان لدينا هنا رجل في مصر اسمه السيد طالب الرفاعي، شيعي. فعندما مات الشاه بحثوا عن شخص شيعي. يصلي عليه فاتصلوا بالسيد طالب وقالوا له تعال صلِّ على الشاه. قال: طيب، حاضر. رئيس الجمهورية يدعوه إلى أن يصلي على الشاه. طيب يا مولانا، هل يمكن أن نعرف قصة طالب الرفاعي بعد الفاصل؟
بعد الفاصل نحكي القصة ونقارنها بما كان مع النبي عليه الصلاة والسلام. فاصل ونعود إليكم. والله وبركاته، عدنا إليكم. من الفاصل الجزء الثاني من حلقة اليوم من برنامجكم السراج المنير مع فضيلة الإمام العلامة الدكتور علي جمعة ومفتي الديار المصرية. قبل أن نخرج إلى الفاصل يا مولانا، كانت فضيلتك تشرح لنا رد الجميل من الرئيس الراحل أنور السادات لشاه إيران، وكنت تقارن بين عمق تربية النبي صلى الله عليه وسلم. وسلم لأمته وهو يعلمهم أن يردوا الجميل، فيأتي وفد الحبشة فيقوم بخدمتهم بنفسه ويقول إنهم أكرموا أصحابي، وبين موقف
آخر: الهجوم الشرس على السادات عندما أكرموا وفادة الرجل الذي هو الشاه. وأقول وأكرر، لأنه طبعاً هذا الكلام عندما يُسمع سيقال لك: وأنت يعني تؤيد الشاه فيما فعل؟ هذا كان سفاحاً. هذا كان ذباحاً إلى آخره، القضية ليست كذلك، القضية أننا جالسون نُخرج أحقاد الناس ونعلمهم على الانتقام والتشفي وعلى عدم الشكر وعلى عدم رد الجميل، والنبي علمنا على غير ذلك. عندما جاء هنا هاجت عليه إيران هيجاناً عجيباً غريباً، ثم بعد ذلك مات الشاه ومات بمرض، فجاء السيد طالب. الرفاعي ليصل وراءه سيد طالب الرفاعي
من أهل البيت، وهو على مذهب الشيعة الاثني عشرية، وكانوا يعطونه من الخمس، فتأتيه هنا الأموال يعيش بها هو وأهله وما إلى ذلك. قطعوا عنه الخمس لأنه صلى (خلف السنة)، يعني كأنهم كفّروه، كأنهم أخرجوه من الملة، وأخذوا يضيقون على الرجل إلى أن ترك. من مصر إلى الولايات المتحدة، ما هذه التصرفات؟ تصرفات النظم والجماعات في مقابل تربية الرسول صلى الله عليه وسلم. نلحظ هنا التشفي والانتقام، ونلحظ هنا شيئاً بديعاً من تربية النفس ومن الرد الجميل. هذا هو الذي نريد أن ننبه عليه الناس، بدون الدخول في مزيد من إيقاد نار الصراع
والخصومة والانتقام. لم يبق للحب مكاناً في القلوب يا جماعة، أنتم تربّون الناس الآن على الأحقاد وعلى الضغائن وعلى إخراج الوضاعة والضغينة من قلوب الناس. والنبي لم يكن يفعل هذا، كان يداوي الجروح، كان يهدئ النفوس، كان يربي، كان يعلم أصحابه وأمته من بعدهم معالي الأخلاق. هذا جزء من موقف المسلمين. والنبي صلى الله عليه وسلم هناك رواية أيضًا أحب أن أذكرها ذكرها السهيلي في الروض الأنف في شرح السيرة في شخص كان اسمه أبو
نيزر، وأبو نيزر هذا كان عبدًا أو مولى عند سيدنا علي بن أبي طالب. وأبو نيزر في نفس الوقت اتضح أنه كان ابنًا للنجاشي. ابنٌ من أبناء النجاشي، سيدنا علي عليه السلام وجده عند تاجر بمكة فاشتراه منه وأعتقه. عندما اشتراه أصبح عبده، وعندما أعتقه أصبح مولاه. "مولاه" يعني كان عبدي وأعتقته. فسُئل سيدنا علي: "لماذا تُعتقه؟" أي أن هذه المكافأة لما صنع أبوه مع المسلمين، يعني ماذا؟ يعني سيدنا... عليّ تربى في مدرسة سيدنا النبي،
سيدنا علي فهم النبي ما الذي يجعله يضحي بأمواله مع شخص غير مسلم. وهو لا يفعل ذلك لكي يقول شكراً لشخص ربما قد مات. ووجد ابن النجاشي، هذا النجاشي عزيز علينا جداً، ليس لأنه أسلم، ولم يقل هكذا إن أباه قد أسلم. لم يقل "نعم، إن أباه كان رجلاً تقياً نقياً"، ولم يقل هكذا. الصحابي الأكرم هذا اشترى هذا العبد وأعتقه لأنه كان ابناً للنجاشي. لأن النجاشي هذا، كما نقول له شكراً على إكرامك، ليس على إسلامك. إسلامه هذا سيفيده عند ربه وأفاده في الدنيا والآخرة، أما أنا فماذا أفعل حتى أكون... صاحب
صورة منيرة مضيئة في العالمين اشتريه وأعتقه لوجه الله. إذا كان هذا الرجل الذي هو سيدنا علي عليه السلام، فقد تربى تربية عالية في مدرسة النبوة وفهم ما لم تفهمه بعض الجماعات وبعض الأنظمة التي تفرح كثيراً بقاتل السادات وتكتب اسمه على الشارع وتقيم له تمثالاً. لماذا تفعل به هكذا؟ يعني هذا الشخص كان يصلي وكان يصوم وكان مسلماً، ولماذا تفعلون به هكذا تشفياً وانتقاماً؟ يا ساتر! هل هذا ما يُربى عليه المسلمون إن شاء الله؟ أنهم كلما رأوا دماً كلما فرحوا؟ لأن النبي لم يكن هكذا، والله النبي لم يكن هكذا، فالنبي هو الذي...
كان يعتدي عليه ويطغى على أصحابه وتُسرَق أموالهم وهكذا، وكان يواسيهم وكان يعلمهم الشكر الحسن في المواقف كلها عليه الصلاة والسلام. يعني أنا قلت لك أن المسلمين في أول الأمر كانوا ماذا؟ عرضوا أن يقاتلوا معهم في مكة مع القتل والمشركين، نعم عرضوا أن يقاتلوا مع النجاشي، مع النجاشي. نعم، فقال لهم: لا، لأنهم كانوا على ما يبدو لم يحصلوا على الجنسية الخاصة به، لا أعرف ما الذي قلناه هذا ضد ابن عمه الذي كان بينهما والملك. لا، هذا بعد ذلك أصبح، جاء أيضاً عدوان أو معركة أو ما شابه ذلك إلى آخره، فذهب سيدنا الزبير وقال له: أقول لك ماذا، أنا سأشترك يعني سأشترك. قال له: "خلاص، تعال معي". فنزل الزبير بن العوام رضي الله تعالى
عنه ضد عدو النجاشي في جيش النجاشي. يعني أن مسلمًا يقاتل تحت راية غير إسلامية وتحت نظام غير إسلامي. فقاتل مع النجاشي وأبلى يومئذ بلاءً حسنًا، أي الزبير. فكان للزبير عند النجاشي مكانة بسبب هذه الواقعة. منزلة حسنة، وعندما قاتل مع النجاشي قوم النجاشي، ماذا فعل؟ فعل شيئًا فيه أيضًا إتيكيت أو بروتوكول أو شيء من هذا القبيل. أعطاه العنزة التي معه، العنزة التي هي العصا. هذه العصا تكون ذات مكانة خاصة عند الملوك وما إلى ذلك، مثل
الصولجان، لكن الصولجان له شكل معين، والعنزة التي هي... هذه العنزة أعطاها الزبير لسيدنا الرسول عليه الصلاة والسلام عندما عاد من هجرته إلى الحبشة، حيث كان من بين العائدين. قال له: "لا، هذه أصبحت شيئاً ملوكياً يستحق يدك" صلى الله عليه وسلم. كان الزبير يحب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حباً شديداً إذ... نحن نريد أن ندرس نموذج الحبشة دراسة متوسعة لأنه أيضاً حدثت أمور منها أن النجاشي بادل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الود وهذا التواصل الذي
بينهما. روى أيضاً السهيلي في الروض الأنف أن وقعة بدر حين انتهت ووصل خبرها إلى النجاشي وعلم بها قبل من عنده من وصل إلى الملك الخبر من أجهزته أن النبي قد انتصر في بدر، فأرسل النجاشي إلى المسلمين يستدعي الجماعة. فلما دخلوا عليه وجدوه يرتدي شيئاً يشبه ما يسمونه بالمسح، وهو عبارة عن فروة خروف أو ما شابه ذلك، أي شيء متواضع، أو لباس الزهاد المتواضعين، نعم
إنه لباس. الزهاد قاعد على التراب وحوله نار مطفأة هكذا ورماد، فقالوا: ما هذا أيها الملك؟ هذا أمر غريب. فقال: إنني أجد في الإنجيل أن الله سبحانه وتعالى إذا أحدث بعبده نعمة وجب على العبد أن يُحدث لله تواضعاً. فهموا مباشرة أنه يفعل ذلك شكراً لله. يقول الله: الحمد لله على نعمة نزلت، ولكننا لا نعرف ما هي هذه النعمة، وأن الله قد أحدث إلينا وإليكم نعمة عظيمة. ما هي يا نجاشي؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: التقى بأعدائه، فبلغني
أنه بوادٍ يُسمى بدراً كثير الأراك. الأراك هذا هو الشجرة التي نصنع منها حتى... الآن السواك - هزم الله أعداءه ونصر دينه - ما شاء الله. هل يا مولانا توجد نماذج أخرى في الحبشة نكملها في الحلقة القادمة أم ندخل في موضوع الهجرة إلى المدينة؟ والله أنا فقط أشوق طلبة العلم وأدعو إخواني العلماء إلى أن يهتموا بهذا النموذج اهتماماً أكثر مما هم يهتمون به الآن لأن... هو كنزٌ من الكنوز التي تفيدنا في عصرنا وما بعد عصرنا، بارك الله فيك يا مولانا. الوقت مع فضيلتك يمر سريعاً. اسمحوا لي باسم حضراتكم أن نشكر فضيلة الإمام العلامة الدكتور علي جمعة على وعدٍ باللقاء مع فضيلته في حلقات قادمة إن شاء الله من برنامجكم السراج
المنير. فإلى ذلك الحين نستودعكم. حفظ الله دينكم وأماناتكم وخواتيم أعمالكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. شكرًا لكم.