برنامج السراج المنير: عدم التصادم

برنامج السراج المنير: عدم التصادم - السراج المنير, السيرة, سيدنا محمد
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد، فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته. حلقة جديدة من حلقات برنامجكم "السراج المنير" مع فضيلة الإمام العلامة الدكتور علي جمعة مفتي الديار المصرية. أهلاً ومرحباً بك، أهلاً وسهلاً بكم. في الحلقة الماضية وصلنا مع مولانا إلى أننا ما زلنا نتحدث في النموذج الأول، نموذج مكة. وصلنا إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في الكعبة، في البيت، وهناك حوالي ثلاثمائة وستين صنماً حول الكعبة. بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله ومن والاه أصنام هذه الكعبة. الأصنام في الكعبة كانت
ثابتة وعلى قواعد راسخة، ولذلك يذكرنا هذا الرسوخ وهذه الكثرة بما حدث بعد ذلك في يوم الفتح، معجزة لا يلتفت إليها كثير من الناس، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضرب بمحجنه الصنم فيسقط، نعم، بعصاه الصغيرة التي يَقُودُ بها الإبلَ، نعم، هذه معجزةٌ حقًا لأنه يحتاج إلى رافعة كي ترفعه أو تكسره، نعم، ولكنه كان يقول: "قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا"، ويضربه هكذا بالعصا الصغيرة هذه فيسقط، سبحان الله! أهل مكة يعرفون أن هذه الأصنام قوية جدًا وأنها مصنوعة لتدوم وأنها تُعَدُّ.
اللهَ فكانوا قد حينئذٍ دخلوا في دين الله أفواجاً، نَصَرَ ربُّنا نبيَّه وأيَّدَه، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً. فهو رأى هذا لأن الناس في مكة لما حصل الفتح لم يُسلموا، وقالوا له: ماذا أنت صانعٌ بنا؟ أخٌ كريم وابن أخٍ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء، إلى آخره. كان شخصٌ اسمه أبو محذورة، وكان أبو محذورة يسخر من الأذان إذ لم يدخل الإسلام قلبه بعد. فسمعه النبي، وكان النبي يمشي ولم يكن منتبهاً، وجلس أبو محذورة يستهزئ بالأذان، فالتفت إليه وقال: "ماذا تقول يا أبا محذورة؟" فقال:
"لم أقل شيئاً". فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده. وضع يده الشريفة على قلبي وقال: "أتحب أن أعلمك الأذان؟" فعلمني الأذان، فوالله ما كان هناك أبغض منه في قلبي، وبعدما وضع يده على قلبي ما أصبح أحد أحب إليّ من محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، وعيّنه النبي مؤذناً في مكة، وأصبح من مؤذني الرسول وحسن. إسلامه جداً هذه الأمور أبهرت المشركين وجعلتهم يدخلون في الدين ليس أفواجاً، لكن المشهد نأخذ منه ماذا؟ أن النبي في مكة دخلها وبها الأصنام، فالذين لا يريدون أن
يذهبوا إلى الأماكن المقدسة لأن فيها ما لا يعرفونه، فإن النبي عليه الصلاة والسلام سنته عكس هذا تماماً، بل دخل وهذا... البيت تحت سلطان المشركين وفيه أصنام تُعبد وفيه أوضاع رديئة لا يقبلها الله ولا رسوله ولا المؤمنون، وبالرغم من ذلك فنحن أحق به من غيرنا. النبي عليه الصلاة والسلام علّم صحابته شيئاً غريباً جداً أن الصفا والمروة من شعائر الله، فمن حج البيت واعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما. علَّم صحابته هكذا أن هذه الشعيرة التي يفعلها المشركون هي من شعائر الله فنحن أحق بها منهم. هنا قمة العدالة مع النفس، نعم، قمة التمكن وقمة
فصل الفاعل عن الفعل التي نكررها كثيراً في الاستفادة من نموذج مكة. في نموذج مكة كان سيدنا صلى الله عليه وسلم أيضاً علمنا. أنه يمكن عند احتدام الأمر أن ندعو سراً، ولذلك دعا سراً في مرحلة هي مرحلة السر، فأصبح "وأنذر عشيرتك الأقربين"، ليس يعني البعيدين إنما الأقربين، يعني عدم المجاهرة بالدعوة، عدم المجاهرة بالدعوة لأنها تُوأد في مهدها، واتخذ من دار الأرقم بن أبي الأرقم مكاناً يجتمع فيه مع أصحابه، خبرهم شائع. ذائع خبرهم شائع وذائع، ولكن مع هذا إلا
أنهم لم تكن فيه مواجهة. يُروى عن صحابي جليل اسمه عفيف أنه قال: كانت لي تجارة مع العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، فأتيت مكة فرأيت شيئاً عجيباً، رأيت رجلاً يخرج من خبائه يعني خيمة صغيرة، ثم تخرج وراءه امرأة. فتقف خلفه ويخرج من الخباء صبي فيقف عن يمينه ويتوجهون إلى الكعبة فقلتُ: يا عباس، ما هذا، أي ما هذا الحال، مَن هؤلاء؟ قال: هذا محمد ابن أخي، يزعم أنه قد أوحي إليه، وهذه زوجته خديجة بنت خويلد صدقته فاتبعته، وهذا
علي بن أبي طالب ابن أخي صدقه. قال عفيف. ووددت لو أنني أسلمت ذلك اليوم فأكون أول من أسلم. كان وهو في البداية. أهو صحيح، سيدنا النبي عليه الصلاة والسلام كان هو عفيفاً. رآه العباس، رآه العباس ويعرف. إذا السرية هنا لها درجات، هي سرية للمواجهة وليست سرية مطلقة. هو معروف، هم يصلون هنا لكن ليس هناك استفزاز. عندما لا يوجد صدام ولا مواجهة، وهذه نقطة مهمة جداً، وهي أن الإنسان يفعل أفعاله بهدوء دون مواجهة ودون صدام ودون خصام، وإلا فإنه في حال الضعف والقلة ينتهي الأمر ويفوز الخصم الأقوى بالمسألة. فهذه أيضاً كانت مهمة جداً
أن يُربي أصحابه على قضية السرية. عندما ذهب عمر بن الخطاب إلى أخته فاطمة بنت الخطاب وزوجها سعيد بن زيد، فإنه وجد عندهم خبابًا يقرأ القرآن. لقد عرفوا أنهم في دار الأرقم السرية، ولم تكن سرية التنظيم، وإنما كانت سرية من حيث عدم ظهورها، وهذا من الأسس. التي نستفيدها من النماذج عندما نريد أن نتعايش، يقول ابن مسعود: "والله لقد رأيتنا وما نستطيع أن نصلي بالكعبة". لما تطورت المسألة قليلاً،
أصبح المشركون قد بدأوا يسمعون الأخبار وما إلى ذلك، فكانوا يمنعونهم من أن يصلوا جماعةً ولا يجتمعوا ولا غير ذلك إلى آخره. وهذه الفترة التي أوذي فيها عمّار وآذى فيها الصحابة الكرام بما فيهم سيدنا صلى الله عليه وسلم عليه الصلاة والسلام فيقول له ما نستطيع أن نصلي بالكعبة ظاهرين يعني والناس يروننا هكذا، لا نختبئ آمنين. من الممكن أن يتهور شخص ويصلي عند الكعبة لكنه سيُضرب، سيأخذ على يديه، سيأخذ بسياط، حتى أسلم عمر. بعد إذنك مولانا نعرف ما الذي حدث عندما أسلم سيدنا عمر، ولكن بعد
الفاصل مهم إن شاء الله. فاصل ونعود إليكم فابقوا معنا. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. عدنا إليكم من الفاصل، الجزء الثاني من حلقة اليوم من برنامجكم السراج المنير مع فضيلة الإمام العلامة الدكتور علي جمعة مفتي الديار المصرية. ما كنا قبل الفاصل يا مولانا قد وصلنا إلى أن الصحابة لم يكونوا يستطيعون الصلاة في الحرم المكي إلا في خفاء أو في الظلام، ولكن حدث تغيير بعد إسلام سيدنا عمر. أسلم سيدنا عمر، فيقول ابن مسعود - وهو من الثمانية الأوائل الذين أسلموا وكان قديم الإسلام - فقاتلهم حتى تركونا قال لهم "نعم" وقال لهم "الذي سيقترب من هؤلاء الأولاد أنا سأضربه". فصلينا وجهرنا بالقراءة ما شاء الله، نعم مختلفين، وكانوا قبل ذلك لا يقرؤون إلا سراً في حالهم هكذا. سيدنا عمر، لكي نتصور، كان طوله
مئتين وثمانين سنتيمتراً، ما شاء الله، مئتين وثمانين سنتيمتراً، مئتين وثمانين سنتيمتراً حتى. أنه كان إذا مشى بجوار الحائط ظنوه راكباً للفرس وهو يمشي على قدمه. كيف يبدو حجم من يركب على الحصان؟ فهو بهذا الجسم مع القوة مع التدريب جعلته قوة. فنحن هنا نستفيد منه القوة، لا نستفيد منه الاثنين متر. القوة المرعبة، يعني هذه القوة المرعبة، هذه القوة سنجدها بعد. ذلك تحولت في أزمان وفي بلدان إلى مؤسسات، فيجب أن تكون هذه المؤسسات معك لكي تستطيع حينئذ. أصبح هناك شيء اسمه البرلمان، وأصبح هناك شيء اسمه الدستور، فإذا تغيرت البلد وينص الدستور على حرية المعتقد، فيجب أن
نستغل هذا الأمر... الأمر... أصبحت لدي قوة ضغط أستطيع أن أصل بها إلى البرلمان، والبرلمان أستطيع أن أعرض فيه مشاريع قوانين تخدم هذه الناحية لنصرة الإسلام والمسلمين، وكذلك لبقاء المسلمين في راحة في هذه البلاد. إذاً نفعل هكذا. نعم، نحن نذكر السادة المشاهدين أن فضيلتك تتحدث عن النموذج الأول الذي هو مسلم في... بلدٌ يحكمها غير المسلمين، وفيها - أقصد يحكمها غير المسلمين - وأسلم عمر. نعم، أسلم عمر، وهذا يعني أن جانب القوة انحاز إلى المسلمين. جميل، عمر طوله مترين وثمانين سنتيمتراً، عمر الفارس الشجاع، عمر الذي يخرج عليهم ويقاتلهم، يقاتلهم ليس بالكلام ولا بالتهديد، بل بالفعل. نعم، أرى شخصاً
قادماً هكذا. يأتي فيمسكوه ويضربه ذلك الضرب ويكسر يده، فلن يعود ثانية، حقاً لن يفكر في فعلها مرة أخرى، لن يفكر في فعلها مرة أخرى لأنه سيُضرب. ومن عُمر سيدنا عمر عندما جاء ليخرج ويهاجر إلى المدينة، وجلس اثنان آخران معه وغير ذلك في قصة طويلة، لكنه وقف وقال لهم: "يا أهل والذي يريد منكم أن تثكله أمه فليأتِ خلفي، والذي يريد أن يموت فليلحق بنا. القضية هي قضية، أي كأنما القوة انحازت إلى المسلمين، فدخلنا في مرحلة أخرى. على كل حال، إذا كانت النماذج التي يعيش فيها المسلم في بلاد غير المسلمين كارهة له، قد يتطور الحال فيجوز له السرية. يجوز له أن يتعامل
في تعايش مع الاختلاط فيدخل الفنادق التي بها القمار والتي بها المراقص والتي بها الفاحشة والتي... لماذا؟ لأنه في مكة، ما زال في مكة هو الآن، وهدي مكة، الهدي هذا لم ينسخ الذي نسخ الأحكام، لكن الهدي، كيف يتعامل النبي إذا ما وُضع في وضعية كهذه؟ لا، لم يُنسخ. فيبقى إذًا الكلام الأول في القاعدة التي ذكرناها في أول حلقة، وهو أن النسخ وإن كان موجودًا إلا أنه خلاف الأصل، وإلا أنه محدود، وأنه لا يكر على الهدي بالبطلان. فهدي النبي باقٍ وهدي القرآن باقٍ. هذه نقطة مهمة جدًا غابت عن كثير من الإخوة ومن المتكلمين. وهكذا ظنوا أن النسخة أزالت الهداية،
لكن النسخ لم يُزل الهداية. باقية في كيفية أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستعمل العنف عندما كان في مكة. الهداية باقية في أنه كان يعيش فيدخل الكعبة ويصلي بالرغم من وجود الأصنام فيها. الهداية باقية وهي أن الأحوال تتغير فتتغير الأمور الهداية موجودة في أنه أرسل صحابته إلى الحبشة وأرسل صحابته بعد ذلك إلى المدينة. الهداية موجودة في ذلك، وهكذا الهداية لا تُنسخ إطلاقاً. الذي يُنسخ هو بعض الأحكام. يعني نحن يا مولانا لنا في رسول الله أسوة حسنة. لو كنت في بلد أعمل فيه أو أدرس في بلد أنا مستضعف النماذج التي في مكة لأن نموذج مكة، نموذج مكة، وهذا لا يعني أنني أشرب الخمر لأنها كانت مباحة في مكة، نعم، ولكنني آخذ الهدي، أي الهدي، كيف يحدث الهدي؟ الهدي أنه لم يكن
مواجهاً، الهدي أنه كان يصلي في البيت الحرام، الهدي أنه أخذ الصفا والمروة فنظر إلى الفاعل ولم ينظر إلى الفعل. الهدي أنه، نعم، هذا هو الهدي المألوف. يعني لم يعد مثلاً في دولة أجنبية أدخل على شخص يشرب خمراً فأكسرها وأقول له: "الخمر حرام". أنا لا أستطيع، هذا حِمل أعتزله فلا أدخل، نعم، أو أعتزل فلا أدخل، نعم، وآخذ جانباً باستمرار، هذا. ليس من هدي النبوة ذلك، يعني هل هدي النبوة أن تدخل الفنادق التي فيها خمر؟ أقول له: نعم، لأن النبي دخل مكة الحرم وفيها أصنام تُعبد من دون الله. هذا فقط، فأنا لن أعبد الأصنام أبداً، ولن أشرب الخمر أبداً، ولن [أفعل المحرمات] لأنني في بلاد تبيحها. الدعارة أنني أقع في هذه الفاحشة لا،
لأن هذه أمور قد أُمرت بالبعد عنها وأنا في وسط المشركين وفي وسط الكافرين وفي وسط من هم أعداء لهذا الدين، إنما كيف أتعامل مع هؤلاء وكيف أتعامل مع هذه الحالة بهدي سيدنا صلى الله عليه وسلم الذي ارتضاه الله له، فهذه نقطة. مهمة جداً نعيد ونزيد فيها حتى تتضح وذلك لأهميتها، ولذلك فرّق الإمام السيوطي ومن قبله الإمام الزركشي بين النساء وبين النسخ. نعم، قالوا: يا جماعة هناك شيء اسمه النساء، يعني التأخير. فالآية الواحدة يمكن أن نستعملها في ظرفها، ويمكن أن يكون لظرفٍ آخر آية
ثانية. نعم، وأستدل بـ "لكم دينكم ولي دين". قال هذه لها حالة خاصة، أما إذا كانت بلادنا بلاد مسلمين وما إلى ذلك، أقول "لكم دينكم ولي دين". إن أرادت أن ترتد فهم أحرار "لكم دينكم ولي دين"، فلا تنفع الشهادة، إنما الذي ينفع هو "لكم دينكم ولي دين". هي في نموذج نعم، وستظل كذلك. هكذا يقول الإمام السيوطي في فكرة النسء، وقبله الإمام الزركشي في البرهان. هذا يقوله في الإتقان: أن هناك ما يسمى بالنسء، وليس كل شيء هو نسخ في نسخ في نسخ في إزالة في كذا إلى آخره. نحن حُرمنا كثيراً من الاستفادة بفقه السيرة، نحن حُرمنا كثيراً من... الاستفادة بالهدي النبوي: نحن حُرمنا كثيراً
من الاستضاءة بالسراج المنير صلى الله عليه وسلم بسبب هذه الفكرة، فكرة أن اللاحق قد أبطل السابق. إن هذا في مجال محدود للغاية، في مجال الأحكام، لكن في مجال الهداية لا. فكل حياة النبي صلى الله عليه وسلم هدى لأنه المختار. لأنه المصطفى، لأنه الأسوة الحسنة، "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله". مولانا، وقت الحلقة مر والوقت يمضي مع فضيلتك بسرعة. إن شاء الله نلتقي في حلقات قادمة نستكمل مشروع أو مفهوم التعايش والنماذج الأربعة في سيرة السراج المنير عليه الصلاة والسلام، عليه الصلاة والسلام. اسمحوا لي باسم حضراتكم فضيلة الإمام العلامة الدكتور علي جمعة على موعد باللقاء مع فضيلته في حلقات قادمة إن شاء الله من برنامجكم السراج المنير، وإلى
ذلك الحين نستودع الله دينكم وأماناتكم وخواتيم أعمالكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.