حديث الجمعة | حكمة تعدد القراءات في القرآن .. أضواء على مصحف عثمان | الجزء 1

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه مع سيرة المصطفى الحبيب المجتبى صلى الله عليه وسلم وقد تكلمنا كثيرًا عما تركه خلفه من المحجة البيضاء التي ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك ثم أخذنا في الكلام على شيء من سير الصحابة الكرام الذين قال فيهم رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ"، وإياكم ومحدثات الأمور. والنواجذ هي ضروس العقل، وعند الإنسان أربع نواجذ وهي في نهاية الأسنان. وعبارة "عضوا عليها بالنواجذ" تعني تمسكوا بها أشد التمسك، لأن الإنسان إذا قدم بكل أسنانه بما فيها النواجذ فإنه يصعب نزعها من فمه فهي كناية عن التمسك الشديد بما كان عليه هؤلاء الذين أُطلق عليهم أهل السنة والجماعة وجمهور الأمة الخلفاء الراشدين. وعندهم أن
هؤلاء الخلفاء على ترتيب الخلافة أبو بكر في الأفضلية ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله تعالى عنهم. وأرضاهم، وبعض علماء أهل السنة يفضلون علياً فيقولون: سيدنا علي ثم سيدنا أبو بكر ثم عمر ثم عثمان. وكان من يفعل ذلك من الأوائل يُقال فيه: فيه تشيع. يُقال فيه ماذا؟ فيه تشيع، يعني عنده قليل من هذا. ما الذي عنده؟ هو يقول: سيدنا أبو بكر وسيدنا عمر، نعم. هو ليس رافضياً، وإنما قلبه يميل إلى سيدنا علي، وقد اتُّهم بهذا التشيع الإمام عبد
الرزاق بن الهمام. كان هذا من أهل السنة والجماعة، ولكنه كان يحب سيدنا علي زيادة هكذا. حتى سفيان الثوري أيضاً اتهموه بشيء من التشيع، وليس التشيع المعروف الآن، بل ذلك التشيع [القديم]. معناها أنه كان يفضل علياً على بقية الخلفاء، وسيدنا أحمد بن حنبل عندما ألَّف كتاب فضائل الصحابة، كان ثلاثة أرباع الكتاب في فضائل سيدنا علي والبقية في سائر الصحابة. لكن جماهير أهل السنة على ترتيب الخلافة، وكل منهم ملتمسٌ غرفاً من البحر أو رشفاً من الديم من رسول الله، وكانوا
فَتَرى مِنْ أبناءِ عَلِيّ وتَرى مِنْ أبناءِ عُمَرَ مَنْ يُسَمّي كُلٌّ مِنْهُمْ بِأسماءِ الآخَرين. وأهلُ السُّنَّةِ في الإسلامِ كالإسلامِ في سائِرِ الأديانِ، يَعْني هو الاتِّجاهُ النَّهْجُ الوَسَطُ. "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا". وبَدَأَ أبو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ في جَمْعِ كَلامِ اللهِ. سبحانه وتعالى في نسق واحد في مصحف له بداية وله نهاية وشكّل لجنة لهذا، وهذه اللجنة كما قلنا كانت تُشهِد شاهدين على كل آية
من آيات القرآن. وعدد آيات القرآن روايته مختلفة، ولكننا عندما طُبع المصحف في تركيا اخترنا رواية حفص عن عاصم بن أبي النجود وعددها ستة آلاف ومائتان. ستٌ وثلاثون آية، ولكن هذا العد ليس متفقاً عليه، فنجد من قلَّل عن هذا ونجد من زاد على هذا، وكل ذلك روايات. توجد هناك مثلاً من يقول لك "قاف" ويعدها آية، وحين تفتح المصحف الذي لدينا تجدها ليست آية، "قاف والقرآن المجيد" تجدها كلها آية واحدة، "ن
والقلم وما يسطرون" لدينا ليست آية ولا شيء، هذه كلها آية واحدة، وهكذا إذاً فالعد قد يكون مختلفاً بالزيادة أو النقصان، إنما المصحف الذي نقرأ عليه كم آية؟ ستة آلاف ومائتين وستة وثلاثين آية. أحياناً نكبر الرقم إلى ستة آلاف ومائتين وستة وثلاثين، مائتين وستة وثلاثين، أقل من خمسمائة، فلنحذفهم ونقول. ذلك أن القرآن ستة آلاف آية، وهكذا كانت عادة العرب، لديهم شيء يسمى جبر الكثرة، عندما يكون هناك كثرة قوم يجوز أننا نكبره. قال: لكي نحفظ ستة آلاف آية، وعندما نقول ثلاثمائة آية في القرآن كلها في كل الأحكام والبقية في الأخلاق المتصلة بالعقيدة،
قم نقسم كم. ثلاثمائة على ستة آلاف هو الصحيح. ماذا نفعل على ستة آلاف ومائتين وستة وثلاثين؟ ولكن ستة آلاف هذه تكون مع جبر الكسر ويعرفه العرب، وهم يعرفونه، فيمكننا أن نفعله لأن مثل هذه التصرفات كانت موجودة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يعترض عليها العرب. لديها لغة ولديها أسلوب خاص، فمثلاً رقم سبعين يُذكر للتكثير: "استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم"، إذاً هو للتكثير. حسناً، ولو استغفرت لهم مائة مرة؟ إنها مغلقة عند السبعين، وهنا العدد لا
مفهوم حقيقي له، فكان سيدنا يقول: "والله لو أعلم..." لو استغفرتُ فوق السبعين لغُفِرَ لهم، لا استغفرتُ. جمع أبو بكر رضي الله تعالى عنه وأرضاه الصديق الأكبر القرآن الكريم، واللجنة أشهدت على كل آية فيها بشاهدين، وحكينا قصة خزيمة بن ثابت الذي كان قد شهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل شهادته بشهادة رجلين فيما ورد في آخر. التوبة لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله
إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم فوجدوها عند خزيمة فقال أبو بكر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من شهد له خزيمة فهو حسبه شهادة خزيمة تعادل شهادة رجلين، وهذا في الأصول يُسمى "الخارج عن سنن القياس". هذا يعني أنه لا يصح أن نقيس مثلاً سيدنا أبا بكر - مع علو قدره وصديقيته العظمى وخلافته الراشدة - ونقول: هو بشاهدين وسيدنا خزيمة كذلك بشاهدين. هناك نص في هذا الأمر، فلا يصح أن نقيس على الأصل فيقولون عنه العلماء خرجنا به عن سنن القياس. جمع أبو بكر رضي الله
تعالى عنه المصحف وظل عنده، فلما تولى الفاروق عمر نُقلت هذه النسخة من حوزة أبي بكر إلى حوزة عمر وظلت عند عمر، فلما انتقل أخذتها أم المؤمنين حفصة عليها السلام وحفظتها في بيتها. يبقى كانت أمراً مهمة جداً هذه. فعندما جاء عثمان وأرادوا كتابة القراءات في القرآن، لأن القرآن تُلي على حرف ثم على حرفين ثم على ثلاثة ثم على أربعة ثم على خمسة ثم على سبعة، حتى لا يضيق على المسلمين وحتى يكون حفظ القرآن آية للعالمين، لن
نحفظه بهيئة واحدة، بل سنحفظه بعشر. هيئات كل قراءة من هذه القراءات تختلف في سبع مناحٍ عن القراءة الأخرى وهذا معنى الحروف. يعني ماذا نزل القرآن على سبعة أحرف؟ يعني عندما تقارن بين القراءات العشرة تجد سبع خلافات، سبعة بنود. فهذا البند الواحد نسميه الحرف: التقديم، التأخير، الزيادة، النقصان، طريقة الأداء "والضحى"، "والضح"، وما إلى ذلك. آخر السبعة يكون في سبع ماذا؟ لا، عشرة قراءات فيها سبعة أحرف. الخلاف بين كل قراءة والأخرى في سبعة بنود. بعد
الفاصل نواصل: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيضاً مع جبر الكسر، القرآن في ستة وستين ألف كلمة فرش. الحروف في ألف ومائتين وخمسين، ألف ومائتين وخمسين كلمة فيها اختلافات ما بين كل قراءة والأخرى. الألف ومائتين وخمسين كلمة: يخادعون، يخدعون، كذبوا، فتبينوا، فتثبتوا. انظر كيف كلمة هنا وكلمة هناك، أحياناً تكون الكلمة فيها قراءتان، ثلاثة، أربعة،
خمسة. فهل في كلام جاء بالعشرة؟ في كلام جاء بالعشرة؟ فلا. لا تقل لهما أفٍ. أنا ألخص لكم كل ما قلناه لكي تتضح الصورة. سيدنا عثمان أرسل إلى السيدة حفصة عليها السلام وقال لها: أرسلي إليّ النسخة لأننا سنشكل لجنة، وهذه اللجنة ستكتب القرآن بدون نقط وما إلى ذلك. سنكتبه أيضاً ولكن سنراعي فيه ما ورد من قراءات معتمدة. لأن المسلمين اشتكوا، هل تُقرأ هكذا أم هكذا، فتبينوا أم فتثبتوا، فجاء إلى السيدة حفصة أولاً وقال لها: "لا، هذه عزيزة عليّ لئلا تأخذوها". قال: "لا والله سنرجعها". فذهبت
بعد ذلك وأرجعها فعلاً، وظلت عند السيدة حفصة عليها السلام إلى أن انتقلت إلى الرفيق الأعلى، ولم يحرقها مع النسخ التي انتشرت هنا وهناك، وكتب سيدنا عثمان ست مصاحف أمهات كبيرة، وهذه المصاحف الأمهات الكبيرة أرسلها إلى الآفاق، فأصبح عنده نسخة في المدينة، وذهبت نسخة إلى مكة، وذهبت نسخة إلى الشام، ونسخة إلى البصرة، ونسخة إلى الكوفة، وقيل أنه قد أرسل إلى مصر أيضاً. أتنتبه؟ إذن هي
ست نسخ أصلية. فهل أو أنها قد ذهبت وبقي ما في الصدور لأن كتابنا لا يبله الماء، فهذا من ضمن صفاتنا في الكتب السابقة: "مصاحفهم صدورهم وكتابهم لا يبله الماء". أنت حفظت القرآن ونزلت وغطست في المياه، تبتل ولكن والله ما يتبل القرآن أبداً. فكتابهم لا يبله الماء لأنه محفوظ، ليس ورقاً وليس شيئاً عليه مياه فتفسد وتشتبه كلمة بكلمة، لا، هذا بالمشايخ بالسند، حتى أن محمد بن محمد الجزري في النشر أورد ألف سند للقرآن الكريم، والألف سند هذا مجرد
نموذج هكذا، ولكن القرآن له آلاف الأسانيد والحمد لله رب العالمين، حفظ الله كتابه وأراد الله أن يبين لنا كيف أن القرآن كان على خطرٍ وكان من الممكن في أي وقت أن يُحرَّف وأن يختلف المسلمون فيما بينهم حتى القتال، إلا أن الله هو الذي حفظ، والله هو الذي وفَّق، والله هو الذي أتمَّ نعمته على المسلمين فوفَّقهم، وتأييد ذلك تراه في كتاب اسمه "المصاحف" لأبي داود، تقرأ الكتاب كله أخباراً عما
كان. في البيئة الواقعية حول القرآن الكريم وتراه في المحتسب لابن جني الذي أورد نحو تسعين قراءة شاذة، بعضها جاء على ألسنة الكبار. إذاً، فهذا لا تأخذه خبراً موثوقاً حول القرآن، لكنه يبين لك البيئة التي حُفظ فيها القرآن. بالرغم من كل ذلك لم نكن بدعاً من الأمم ولكن بالرغم... من الأخطاء، من القصور البشري، من التقصير في الهمة، من الاختلاف،
من الظن؛ إلا أن الله سبحانه وتعالى نجّى كتابه وحفظه، فتمت النعمة. إنه لأمر عجيب أن تقرأ المصاحف لأبي داود، هذا هو، وأمر عجيب أن تقرأ المحتسب لابن جني، ثم تقول: الله! كيف نجا القرآن؟ بعد كل هذا كيف الله إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون، لا أنت حافظٌ يا أخي ولا غيرك لم يحفظ شيئاً، الله هو الحافظ سبحانه وتعالى. وقد كان بعض المغفلين من المستشرقين وغيرهم من أتباعهم
يقرؤون هذا على أنه وكأنه صحيح البخاري. لا يا حبيبي، حتى الإمام البخاري أخطأ في الآيات في... الصحيح أنها كُتِبت خطأً، والآية حينئذٍ هي التي مُعتبرة، وهذه أخطاء نُسّاخ. ماذا سنفعل؟ ماذا يعني ذلك؟ وحتى في المذاهب مثلاً "فاقتلوا المشركين"، نقول "اقتلوا المشركين"، هل يصلح هذا أم لابد أن نقول "فاقتلوا المشركين"؟ يعني هل يجب أن نستحضر الفهم أم ليس ضرورياً أن نستحضر الفهم؟ كل كتب الأصول في القرآن "اقتلوا المشركين"، ليس فيه إلا
"فاقتلوا المشركين"، أي أنهم عدّوا الفاء كلمة مستقلة يجوز التنازل عنها. الفاء كلمة مستقلة، وهي فعلاً الفاء كلمة و"اقتلوا" كلمة ثانية. ولكن هذه طريقة عندنا في الأزهر، يأتي في الدكتوراه والطالب كاتب لقوله تعالى "اقتلوا المشركين"، فيقول له: "يا بني، اسمها فاقتلوا". المشركين أتنتبه، يكون هذا مذهب آخر. قال: لا نجعل المتصل ولا المنفصل، هما مذهبان. والقرآن أصبح في المصحف هكذا يتحدى الجميع. تذهب إلى "فلا تقل لهما
أف"، وهي واحدة فقط ولا يوجد غيرها. لا تقل لي أن هذه آية أخرى يا مولانا، فهو الذي... ماذا يحفظ فيقول آية أخرى وهو لا يعرف الآية الثانية ولا الثالثة، فتذهب إلى "فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ". هي ليست إلا واحدة فقط وبالفاء. يصح أن تقول "فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ". قيل وقيل هذه المصاحف التي كتبها سيدنا عثمان قد شاعت وذاعت في البلدان، ولما جاء العثمانيون. كانوا يدفعون الغالي والرخيص في الحفاظ على تراث سيدنا صلى
الله عليه وآله وسلم وأصحابه الكرام، فحاولوا أن يجمعوا تلك النسخ وأن يفتشوا في الأسر وفي المساجد وفي التكايا وعند العلماء عن هذه الأشياء، وحصل من مجموع ذلك أن هناك أربع نسخ في العالم منسوبة إلى مصحف عثمان، واحدة منها. موجودة في مصر، كانت في مقام سيدنا الحسين، وبعد ذلك أصبحت الآن في مقام السيدة زينب محفوظة هناك، ولذلك تُعرف بمصحف المشهد الحسيني، لأنها كانت في البداية. يقول أحمد باشا تيمور أنها
كانت في أثر النبي، في منطقة لدينا قبل المعادي تُسمى أثر النبي، كانت محفوظة فيها هذه الآثار بما مصحف عثمان ثم بعد ذلك انتقلت إلى المشهد الحسيني مع الآثار النبوية المشرفة المكرمة، ثم بعد ذلك انتقل المصحف فقط إلى السيدة زينب وهو باقٍ هناك في الحفظ. واحدة منها كانت في توبكابي، وتوبكابي هذا متحف في تركيا، والثانية في متحف الآثار في تركيا، والثالثة هي في طشقند، فيكون هناك نسخ أهم في حلقة قادمة نتكلم عن تلك النسخ الباقيات فإلى لقاء آخر، أستودعكم الله، والسلام
عليكم ورحمة الله وبركاته.