حقيقة عذاب القبر ونعيمه | أ.د علي جمعة

سؤال آخر يسأل عن حقيقة عذاب القبر ونعيمه، النبي صلى الله عليه وسلم يقول وهو الصادق المصدوق: "القبر حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة". هذا الكلام ما معناه وقد غادرت الروح الجسد؟ تكلم علماء المسلمين على أن الجسد الذي موجود أمامنا هذا الذي يتكون جنيناً في بطن أمه ثم ينفخ فيه الروح بعد أربعة شهور، ينزل مثل الكأس الذي فيه ماء. هذا
الكأس الذي هو الإناء، الذي هو حضرتك الجسم، هذا اللحم والدم والعصب وهكذا. هذا التكوين الذي خلقه الله في أحسن تقويم، كأس مملوء بماذا؟ ماذا وُضع بداخله؟ الروح. الروح داخلة في الجسم بداخله. والروح هذه ماذا بداخلها؟ بداخلها النفس. هذه الروح التي هي مثل الماء لم نضع عليها شراباً بعد. عندما نضع على الماء شراباً يصبح هذا شراباً. يمكننا أن نشير إلى الكوب بأكمله ونقول: "شراب"، ويمكننا أن نشير إلى ما وضعناه من زجاجة الشراب ونقول: "هذا هو الشراب" ممزوجاً
بالماء، وهكذا... أمامك إنسانٌ، جسدٌ بداخله روحٌ، وبداخلها نفسٌ. هذه النفس لها اتصال بالعقل والقلب والوجدان وبكل شيء في الإنسان. هكذا، فالطفل عندما يولد يكون عبارة عن جسد وفيه روح. أما نفسه، فماذا كُتِب فيها؟ لا شيء، لا شيء. ليس مكتوباً فيها شيء. ثم تراه ينظر هكذا وتجده متفتحاً. أصبح هكذا وضحك هكذا طفل صغير أقبّله، ماذا يعني رضيع؟ يعني طفل صغير، لكنه خزّن في دماغه، ودماغه قابلة للتخزين، الثريا التي يراها وهو مستلقٍ على ظهره هكذا، سمع
أباه يصرخ على أمه أو أمه تصرخ على أبيه، فيحتفظ بأن هناك اثنين يصرخان، جاء شخص واحتضنه وربت عليه. عليه أن يقوم ليشعر بأن هناك شيء يُسمى الحنان والأمان، ويظل بهذه الحالة -يا عيني- يُدرك ويخزن المعلومات. ليس بالضرورة أن يعرف كيفية استرجاعها ثانية، فالذاكرة لم تتدرب بعد، لكن كل شيء يُختصر. لذلك يقال لك: احذر أن تكذب أمام الولد، كأن تقول في الهاتف مثلاً: "فلان ليس هنا" وهو أمامك، فهذا الولد يعي ذلك. لا تقولي أنا لم أعلّمه الكذب، لا، أنت بذلك علّمته الكذب، ولكنك لست منتبهاً أنه يتربى منذ أن واجه هذه الحياة وتبدأ المعلومات
تكتمل حتى البلوغ. انظر إلى بلوغ الإنسان عند سن ربما خمسة عشر، هذه الخمسة عشر سنة يحدث فيها تحصيل للمعلومات، ولذلك التكليف مناطه. العقل العقل متى سيكتمل بكماله؟ المعلومات أول ما يبلغ كمية المعلومات فارتبط به التكليف. التكليف يأتي هنا. وما دون الحلم وما دون سن التكليف غير مكلف لماذا؟ لأن معلوماته ناقصة، ولذلك التكليف مناطه العقل، والعقل لا يتم إلا بكل المعلومات التي نهايتها البلوغ، حينئذ تصبح النفس
قابلة للمحاسبة وقابلة. للمؤاخذة، وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً لكي يُبيّن لهم ما أُحِلَّ لهم وما حُرِّم عليهم من معلومات، وأن لديك القدرة إذاً، وهديناه النجدين، ولديك قوة لربط المعلومات، ولديك قدرة لاسترجاع المعلومات، ولديك قدرة لأداء المعلومات عن طريق لسانك وعن طريق عينيك وعن طريق أذنك وعن طريق هذه الحواس كلها فيما بعد. عند الموت تخرج الروح، وإذا خرجت الروح ستخرج معها النفس مباشرة، ويبقى الجسد الفاني الذي خُلق من تراب، من طين، من ماء، يبقى في الأرض، نضعه في القبر، فيتحول إلى تراب مرة أخرى. "منها خلقناكم وفيها
نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى". فالجسد سيفنى عندما تخرج الروح مع النفس، وتكون هذه هي الوفاة. إذا خرجت النفس فقط، قد يكون ذلك نوماً، قد يكون نوماً. النفس خرجت وثابت أن الجسد نائم، فيه روح. ماذا تفعل هذه الروح؟ تتنفس، تقوم بالدورة الدموية، تفعل ما لا أعرفه. لكن عندما يأتي أحدهم ويقول لك: قم صلِّ، ستقول: ماذا تقصد بقم صلِّ؟ أنت نائم، أنت منقطع. عن العالم الخارجي هو الذي يتوفى الأنفس، متى؟ حين موتها، والتي لم تمت في منامها. يتوفى الأنفس
في النوم، ويتوفى الأنفس أيضاً مع الروح في الموت. أما النوم فيردها مرة ثانية، أول ما تعود مرة ثانية تفتح عينيك هكذا، استيقظت خلاص، فمكلف مرة أخرى. رُفِعَ عن أمتي الآية "رُفِعَ القلمُ عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ". عندما لا تكون معه نفسه، نفسه متوفاة، عندما يحدث الموت، الروح تأخذ بعض النفس هكذا وتصعد إلى الأعلى. لقد صعدت إلى بارئها، ولكن هناك علاقة بينها وبين الجسد الذي تحت. هذه العلاقة ليست العلاقة الأولى، العلاقة
الأولى شكلها... ما هذا؟ هنا جسم وفيه روح، وداخل الروح نفس، والداخلية هنا لأن الروح هذا كائن لطيف، ليست مثل الكوب والماء وما شابه، لا بل هي أكثر امتزاجاً. انظر عندما وضعنا الشراب على الماء امتزج فيه، الروح مع النفس هكذا، ذابت بداخلها هكذا، بداخلها بهذا المعنى، فيها تداخل عندما... صعدت إلى الأعلى فأصبح هناك اتصال، سبحان الله! لقد حل لنا التلفزيون هذه القضية. هذا التصور أنهم كانوا يكتبون لنا في كتب العقائد كلاماً، ونسأل: هل تنزل؟ هل تُحل مرة أخرى؟ هل في هذا القبر بعدما نمضي أو قبل أن نمضي يقوم ثانية؟ أم ما الأمر؟
فكانت هذه التصورات قليلاً غامضة، وها هي قد اقتربت وأصبح هناك شخص يجلس في التلفزيون يقدم نشرة الأخبار، وجميع خلق الله في العالم يستمعون إليه. حسناً، كيف يمكن إذاً أن تكون النفس التي فيها الروح موجودة في الملأ الأعلى من وراء البرزخ "ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون" في اللمعة هنا عند. ربها وليها اتصال، ثمة اتصال. كيف إذا كان الإنسان اكتشف بعض القوانين وبعض الأشياء وصنعوا الأقمار الصناعية والتلفزيون والإنترنت وغيرها، أفلا يكون رب العالمين لديه أمور كهذه؟ والله لديه ولديه أكثر من ذلك بكثير. فثمة اتصال، هو في الأعلى
وهذا في الأسفل، والذي في الأسفل يرى ويعمل. عن طريق الذي فوق هذا الذي تحت يرى مقعده من النار ويرى مقعده من الجنة. الذي تحت هذا ظللنا لا نفهمها ونرددها هكذا وعلماؤنا يكتبونها ويحاولون أن يفهموها لنا ونحن أحياناً نكون صعبي الفهم قليلاً هكذا ولا نرضى أن نفهم أن الذي تحت هذا شيء والذي فوق هذا شيء آخر في الزمن. الذي تحت، كم مضى عليه الآن؟ مائة وخمسون سنة، ثلاثون سنة. واحد مات منذ ثلاثين سنة. حسناً، وفوق، ماذا فات عليك؟ قال لك دقيقة. لماذا يقول
لك "تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة"؟ اقسم الخمسين ألف على أربعة وعشرين ساعة، تصبح الساعة بألفين وشيء. اقسم. الألفين وبعض الشيء على ستين دقيقة تساوي خمساً وثلاثين سنة، كيف يعني؟ لست أفهم هذا. يعني الذي هنا بالأسفل مرّ عليه خمس وثلاثون سنة، فتكون الروح في الأعلى قد مرّت عليها دقيقة، إلى أن جاء آينشتاين وشرح لنا وقال: "والله لستم تفهمون شيئاً". قلنا له: "حسناً، فهِّمنا يا آينشتاين". فجلس يشرح لنا حتى. اليوم في نظرية النسبية وأن الزمن هو البعد الرابع للكائنات وأن الكلام لم يتوقف عند نيوتن بقوانينه وإن كانت صحيحة في عالم
الظاهر لكن هذا فيه عنصر آخر وهو الزمن المتصل بسرعة الضوء واستمر يشرح فيها ويبين المعادلات التي توضح كيف يمضي في الأعلى دقيقة فيمضي في الأسفل خمسة وثلاثين. سنة وتكلم ومما تكلموا في نظرية النسبية وشرحها أن الواحد لو وصل إلى سرعة الضوء وهذا مستحيل وصعد إلى الأعلى وبقي دقيقة ثم رجع، وكان عمره ثلاثون سنة، سيجد زميله الذي كان يجلس بجانبه في الفصل قد بلغ خمسة وستين سنة. واستمروا في شرحها مستشهدين بأينشتاين ثم انتقلوا بعد
ذلك إلى نظريات الكم. وفي نظريات الكوانتوم، المشكلة التي تخص هؤلاء الناس السلوكيين والكميين وغيرهم أنهم استنبطوا من هذا الإلحاد وأن الإنسان يعمل هكذا وحده بالكم. فالمؤمنون ردوا عليهم قائلين: حسناً، ماذا عن الجمال؟ كيف ردوا عليهم؟ بالجمال. أنت تقول إن هذا الإنسان... حسناً، ولكنها نفس الوظائف التي يؤديها. الإنسان لا تكتمل حياته من غير جمال، ولماذا أصبح هناك جمال في المسألة؟ لماذا أصبحت هناك سيارة؟ وبعد ذلك ذهبنا نصنع لها أن يكون لونها أحمر وأخضر وأصفر،
وأن يكون شكلها كذا. أين هذا الجمال؟ الدنيا كلها مبناها الجمال وليس الكم. لو كان هذا الخلق خلقاً ميكانيكياً، ولذلك سموها ميكانيكا الكم، إنها هي. هكذا وانتهى الأمر، لم يكن ليوجد جمال في الدنيا. حسناً، إنه يوجد جمال في الدنيا، فيوجد ربنا دائماً. الجمال دليل على وجود الله. سيدنا يقول ماذا؟ أن الله جميل يحب الجمال، ولذلك هو الذي أنزله. لو كانت المسألة في ميكانيكا الكم لكان انتهى الأمر ولم يعد موجوداً. في جمالٍ نسير مثل الروبوت كما يريدون العودة إليه مرة أخرى ولا يستطيعون، يا للأسف! وكل هذا الجمال الساحر في الشمس وفي القمر، في الشجر وفي البقر، في النهر وفي البحر، ما هذا؟ كان من الممكن
جداً أن يصنع لك خزاناً ويضع فيه. إنما يجب أن ترى الجمال وربنا أمرك بذلك أيضاً، "الذين يتفكرون". أمرك بالتفكر "إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب". ولذلك النبي يقول إن السماء عليها شياطين يصدون الناس عن النظر إليها، لأنك لو نظرت إليها ترى جمالاً، ولو استقر الجمال في وجدانك آمنت. بالله فقط وكفى وتقول سبحان الله ما هذا؟ أنا أنا أنا منبهر. هو لا يريدك أن تكون منبهرًا، فتصبح القضية بين ميكانيكا الكم والكوانتم وبين
أننا نقول لهم: كل كلامكم صحيح ولكن تفسيركم خاطئ. كل كلامكم صحيح، كلامكم الرصدي إياك أن تقول له خاطئ لأنه صحيح فعلًا. نحن نعمل بخلايا والخلايا تعمل. ليس كله صحيحاً، ولكن ماذا يُستفاد من ذلك؟ يُستفاد من ذلك أن الله عندما خلق الخلق خلقه جميلاً حتى يدل بهذا الجمال على حكمته وإبداعه، ولذلك سُمي ماذا؟ أنه مبدع بديع. أليس "البديع" من أسماء الله تعالى؟ نعم. إذاً الكون حقيقة والجمال دليل، انتبه جيداً.