رحلة المصحف | حـ 2 | تفسير القرآن الكريم | أ.د علي جمعة

رحلة المصحف | حـ 2 | تفسير القرآن الكريم |  أ.د علي جمعة - تفسير, رحلة المصحف
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله دالًا ومدلولًا، ظاهرًا وباطنًا نعيش مع قصة المصحف الشريف. لو أمسكنا بالمصحف ونحن في أوائل القرن الحادي والعشرين وفي أوائل القرن الخامس عشر الهجري، لوجدناه مطبوعًا، ولم يكن كذلك في البداية. بل إنه كان مكتوبًا على كل أنواع الورق وكل أنواع ما هو مُهيأ للكتابة. فهناك ما يُسمى "ما كُتِب فيه القرآن"، "ما كُتب فيه القرآن"
كانوا يحضرون الجريدة ويفتحونها وينظفونها ويكتبون عليها. عظم الإبل يكون فيه جزء عريض هكذا في الحوض، فيحضرونه وينظفونه ويكشطونه ويكتبون عليه. ورق البردي كانوا يُحضرون ورقتين ويضعونهما معكوستين ويدقونهما بالدُقماق ويكتبون عليهما وهكذا. فهذا الذي يُسمّى ما كُتب فيه، فكُتب القرآن على كل ما يصلح للكتابة عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الصحابة يمسكون هذا الشيء الذي كُتب عليه من أجل الحفظ، وقصة عمر بن الخطاب مع أخته فاطمة بنت الخطاب مشهورة أنه
لما دخل عليها وجد معها ما تقرأ فيه فقال: "ما هذا؟" قالت: "اذهب فتطهر فإنه لا يمسه إلا المطهرون". فذهب فتطهر، ثم أتى فقرأ أو لمس هذا المكتوب عليه، فمنَّ الله عليه بالإسلام بعد ذلك. وبعد أن حفظ المسلمون الكتاب حفظاً جيداً، قرأوه على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورشح منهم متقدمين فقال: "إذا أردتم أن تسمعوا القرآن كما أُنزل فاسمعوه بقراءة ابن أم عبد، عبد الله بن مسعود، متخصص في القراءات، جالس للقرآن"، وأبي بن كعب. وكان النبي مرة في الصلاة فنوزع في القرآن. خاصية
القرآن أنه وأنت تقرأ في الصلاة وشخص آخر يقرأ وراءك، فإنه يشوش عليك، تشعر هكذا أنك تقرأ بشدة كبيرة هكذا. فقال: "هل كان يقرأ أحدكم خلفي؟" قالوا: "نعم يا رسول الله". واحد قال: "نعم، أنا كنت أقرأ خلفك". قال: "ولذلك قلت: ما لي أنازع القرآن؟ "أنازع القرآن" يعني يأتي بشدة هكذا. "ما لي أنازع القرآن؟" سبحان الله! هذه خاصية ليست موجودة في الشعر هذه خاصية ليست موجودة في النثر هذه خاصية ليست موجودة في كلام الناس أن شخصاً يتكلم هكذا فيعيد الآخر كلامه، فالمتكلم يجد منازعة، إذن فالله قد أعطاها لنا هكذا وهي موجودة حتى الآن، ولذلك تجد أنه لا يوجد
مسلم عرف إسلامه ويترك الإسلام، كيف يتركه وهو يرى معجزات مستمرة ليل نهار، كيف سيتركه؟ الذي يترك الإسلام هو شخص لم يعرف الإسلام حقاً، لم يعرف الإسلام. فالمرء عندما يقرأ هكذا حافظاً ويقرأ في المحراب، وخلفه شيخنا هنا عندنا حافظ أيضاً، فيقرأ خلفه، فأتشوش أنا رغم أني لم أسمعه وهو واقف في آخر الصف. فهذا شيء من أمر الله يخبرك أن هذا الكلام ليس كسائر الكلام، وقوانينه ليست كسائر القوانين. وصل إلينا المصحف بعد أن مر بمراحل، من ضمنها مرحلة سيدنا أبي بكر الصديق الذي جمع الناس وقال:
كل آية تُكتب ينبغي أن نعرف أين هي مكتوبة، وأن يشهد شاهدان على الأقل أنهم يحفظونها ويشهدون أنها في هذا الموطن لأن القرآن نزل منجّماً، فمن الذي يستطيع ذلك؟ من رشحهم النبي صلى الله عليه وسلم، أبيّ بن كعب، عبد الله بن مسعود، ينفع زيد بن ثابت، ينفع فلان وعلان. فاختار منهم، اختار منهم، لم يخترهم كلهم لأنهم كانوا كثيرين، ومن فن تشكيل اللجان أنه يجب أن يكونوا ثلاثة أو أربعة حتى يعرفوا كيف يجمعوا وينتجوا بسرعة. أنهوا القرآن إلى أن
وصلوا إلى آيتين هم يحفظونهما أصحاب اللجنة: "لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم، فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم". وهاتان الآيتان في آخر سورة التوبة تحتاج إلى شاهدين. في ذلك الوقت كان هناك جهاد في سبيل الله وصد للطغيان ورد للعدوان، وكان القراء ذاهبين للجهاد في سبيل الله. بحثوا في المدينة عن أحد يشهد، فتقدم خزيمة بن ثابت أو أبو خزيمة بن ثابت. خزيمة بن ثابت هذا هو الذي قال: أنا أشهد أن هاتين الآيتين صحيحتين وأنهما هنا في سورة التوبة، فقالوا
له: "حسناً، ننتظر إذن شخصاً آخر". فأبو بكر الصديق وهو جالس قال: "لا إله إلا الله". قالوا له: "ما الأمر؟ ماذا هناك؟" قال: "هذا شيء غريب عجيب، هذا الرجل، وهذا الرجل بالذات، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من شهد له خزيمة فشهادته بشهادة رجلين، وهذا معنى مقصور على خزيمة. لماذا؟ لأنه صادق، ولأنه مؤمن، ولأنه طيب، ولأنه كذا. حسناً، أليس أبو بكر - يعني أبو بكر الصديق - الذي سماه الله صديقاً وسلّم عليه من فوق سبعة أرقع؟ ما هذا الأمر؟ قالوا: لا، أبو بكر وهو صديق لا يصلح إلا بشهادة رجل واحد، لكن
خزيمة هذا جعل الله سبحانه وتعالى شهادته بشهادة رجلين لأجل هذا الموقف فقط وانتهى الأمر، ولا يوجد أحد في الأرض حتى يوم القيامة تكون شهادته بشهادة رجلين. هل كان محمدًا يعرف الغيب؟ هل كان متفقًا مع خزيمة أن يفعلا شيئًا لأنه صلى الله عليه وسلم يعرف أن الناس ستفقد الشاهد الثاني في الوقت الخاص بجمع القرآن؟ هؤلاء ستة آلاف ومائتان وستة وثلاثون آية شهد على كل آية من الستة آلاف ومائتان وأربعة وثلاثون آية رجلان، ولماذا حدث هذا الأمر العجيب مع هاتين الآيتين وشهادة سيدنا خزيمة؟ هذا الأمر خاص بالله، أم أنه خاص بمحمد أم أنه خاص بأبي بكر؟ لا إله إلا الله، فكل واحد لديه عقل عليه أن يفكر به، فقالوا له: "ما القصة؟"، فقال: "القصة غريبة جداً. سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان عائداً من مشوار إلى المدينة، فرأى جملاً جميلاً مع أعرابي فسأله النبي إن كان يريد أن يبيعه فوافق الأعرابي، فسأله النبي: 'بكم تبيعه؟'، فقال: 'بكذا'، فأعطاه النبي عليه الصلاة والسلام المال ومضى، والناقة أو الجمل يتبعه، والأعرابي وراءهما." الجمل معروف طبعاً أنه في البادية، فلما بدأ يدخل قليلاً إلى المدينة، الناس مباشرة عرفوا أن الرجل الأعرابي هذا بهيئته هذه هو صاحب هذا الجمل. فسأله أحدهم هل تود أن تبيع الجمل فتردد الأعرابي وغمغم بكلام لا نعم ولا لا، ثم سوَّل له شيطانه أن يبيعه مرة ثانية، فقال لهم. نعم، فالنبي التفت إليه وقال له: "نعم، ماذا؟ بالله أنا أسمع
الناس وهم يسألونك وأنت لا ترد، الناس تظن أن هذا جملك، يسألون وأنت لا تجيب. لكن "نعم" ماذا إذن؟ ما هذا إذاً؟" قال له: ما هذا؟ هل هذا جملك؟ قال له: هو بالفعل جملي لأنني أعطيتك المال الخاص به وبِعنا واشترينا وأنا داخل به المدينة، فيه ماذا؟ قال له: هل معك شاهد؟ قال له: لا ليس معي شاهد، ولكن هذا ما حدث. فخزيمة واقف قال له: أنا أشهد معك يا رسول الله أنك قد اشتريته من هذا الأعرابي. قال له: هل رأيتني يا خزيمة؟ ما هو أيضاً سيدنا رسول الله قاضي وإمام فيقول له: يعني أنت لم تشاهدنا ونحن قلنا لا يشهد أحد إلا بما يرى حقًا، فقال له: يا رسول الله، أأصدقك أن خبر السماء يأتيك من فوق
سبع سماوات ولا أصدقك أنك اشتريت من هذا الأعرابي ذلك الجمل؟ يا رسول الله، إنك تعلمنا أن نفعل كل شيء جميل وألا نكذب ولو بهمسة، ونحن نعيش معك على هذا. ثم قال خزيمة للأعرابي: يا رجل، اتقِ الله، أأنت بعته؟ فقال: نعم، بعته. ففرح النبي بإيمان خزيمة وقال له: من شهد له خزيمة فهو حسبه، من شهد له خزيمة فبشهادة رجلين. انظر كيف حدث هذا الموقف ليكون سببًا في آيات القر آن الكريم، وإلى لقاء آخر نستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته