روح العمل | الحكم العطائية | حـ 10 | أ.د علي جمعة

روح العمل | الحكم العطائية | حـ 10 | أ.د علي جمعة - الحكم العطائية, تصوف
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة المشاهدون، أيتها الأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من حلقات الحكم العطائية. يقول سيدي ابن عطاء الله السكندري في الحكمة العاشرة: الأعمال صورٌ قائمةٌ وأرواحُها سرُّ الإخلاصِ فيها، هذا مأخوذٌ من قولِه صلى الله عليه وسلم وهو أول حديثٍ صدَّر به البخاريُّ صحيحَه: "إنما الأعمالُ بالنياتِ، وإنما لكلِّ امرئٍ ما نوى". فقولُه صلى
الله عليه وسلم هذا يقولُ فيه الإمامُ السيوطي: "وهذا الحديثُ العظيمُ يدخلُ في سبعينَ باباً من أبوابِ الشريعةِ". النية والإخلاص لله رب العالمين هو المقصد الأساسي، والنية والإخلاص يدخلان في الطهارة وفي الصلاة وفي الزكاة وفي الصيام وفي الحج وفي الكفارات وفي النذور. والنية أيضاً تدخل في باب الطلاق وباب الشهادات وفي باب الأيمان، وتدخل أيضاً في كثير من أبواب الفقه، عدَّ منها الإمام السيوطي سبعين باباً من. أبواب الشريعة تحتاج إلى النية والنية محلها القلب فهي عمل من أعمال القلب، ولذلك
فإنك وأنت تصلي تنوي أنك تصلي الظهر ويكون ذلك في قلبك، أو أنك تصلي المغرب ويكون ذلك في قلبك. فالنية محلها القلب، والنية لا بد فيها من المقصود الحسن، وتكون النية بقصد حسن عندما تكون موجهة. لله رب العالمين. فالإخلاص هو سر الأعمال، والأعمال التي تتم من غير إخلاص هي أعمال عليها علامة استفهام، وفي الغالب الأعمال لا تُقبل عند الله سبحانه وتعالى. أما الأعمال التي تتم وفيها إخلاص فإن عليها كثيراً من الثواب.
يقول الإمام الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: "لا يقبل الله العمل بالإخلاص والصواب، وقد تحدث العلماء عن هذين الركنين: الإخلاص والصواب. متى يكون الأمر فيه إخلاص؟ عندما يكون لله وحده. وتحدثوا عن أن الإخلاص على ثلاثة أنواع أو أقسام أو مراتب، سمها ما شئت. ولكن هناك عموم الناس إخلاصهم أن يكون العمل خالياً من الرياء، والرياء هو الشرك الخفي كما وصفه الله صلى الله عليه وسلم، فينبغي عليك عندما تصلي ألا تصلي للناس وألا ترائي بعملك هذا من أجل أن يقال عنك إنك مصلٍ، وعندما تجاهد في سبيل الله سبحانه
وتعالى لا تفعل هذا من أجل أن يقال عنك إنك شجاع، وعندما تتعلم العلم لا ترد بذلك الشهرة والمجد والفخار وأن. يُقال عنكَ إنكَ عالِمٌ ويُشار إليكَ بأنكَ عالِمٌ. لا تفعل هذا من أجل هذا، بل لوجه اللهِ وحدهُ، بل من أجل أن يرضى عنكَ اللهُ. لأن اللهَ أمركَ بالعبادةِ وأمركَ بالعلمِ وأمركَ بكلِ خيرٍ يجب أن تفعلهُ، فلا بدَّ عليكَ أن تفعلهُ وأنتَ مخلصٌ إخلاصاً لا شائبةَ فيهِ ولا رياء. فيه لا الخفي ولا الظاهر لله رب العالمين هذا إخلاص عموم الناس لكن هناك إخلاص آخر وهو إخلاص المحبين وفيه الإنسان يعمل
العمل إجلالاً لله يعني كأنه سوف يفعل هذا حتى لو لم يأمر به الله يعني الله سبحانه وتعالى لو خيرنا في الصلاة يعني الصلاة فرض لكن نفترض أن قال ربنا جل جلاله إن الصلاة ليست فرضاً، كنا سنصلي له لماذا؟ لأننا نحبه، يعني الذي وجه العمل عند المحبين حبهم لله رب العالمين، وأنه مستحق للعبادة، وأنه مستحق لأن يبذلوا نفوسهم في سبيله سبحانه وتعالى. فإخلاص عموم الناس أن يكون خالياً من الرياء، لكن إخلاص المحبين شيء آخر وهو تعظيم الله وحب الله وإجلال الله في قلوبهم. هناك
نوع آخر من الإخلاص وهو إخلاص المقربين. وإخلاص المقربين يأتي مما يسمونه بالشهود. المقربون تحدث لهم حالة كأنهم ينفصلون عن الكون ويشاهدونه، يعني يخرج الواحد منهم من نفسه هكذا ويشاهد ما الذي يحدث في الكون، فيرى فعل الله سبحانه وتعالى أنه... أعطى هذا وأغنى هذا ومنع هذا وأفقر هذا وأمرض هذا وجعل هذا عالمًا وجعل هذا جاهلاً وجعل هذا متسامحًا وجعل
هذا حقودًا. إن أمر الله في الكون يراه هذه المشاهدة للكون، وكأنه ينظر لشيء يتفرج عليه ويشاهده، تجعله دائمًا يرى فعل الله في الناس، وتجعله دائمًا يُسلِّم لأمر الله فيهم، فهو لا يتدخل، لا يريد أن يؤثر، يقول دائمًا: "لا حول ولا قوة إلا بالله، آمنا بالله"، ويجعل نفسه هو أحد الأفراد، ولذلك فإنه لا يطلب ولا يرفض. هذا حال المقربين، حال المقربين إخلاصهم مبني على الشهود، فيمكن أن نقول إن حال الإخلاص عند
عموم الناس هو الخلو من... الرياء عند المحبين هو إجلال الله وتعظيمه وحبه، وعند المقربين هو الشهود هذه هي غاية المراد. إنها لو أن ربنا فتح قلبك وفهمتها وكأنك تشاهد تمثيلية أو كأنك تشاهد فيلماً، لكن هذه المرة من خلقة الله سبحانه وتعالى وصناعته. هو الذي صنع هذا، هو الذي خلق هذا ولما خلق. هذا ولأننا نؤمن به ونرضى بقدره وبقضائه وبحكمه فإننا نسلم ونرضى، حينئذٍ لا تجد نفسك قادراً على الغضب ولا على الاعتراض ولا على التبرم، حينئذٍ تجد نفسك في منتهى
السهولة وأنت متوكل على الله وأنت متواضع لله وأنت مخبت لله، تجد هناك لذة بأنك تنظر إلى تمثيلية أو إلى فيلم. ولله المثل الأعلى، ولكن في هذه المرة هي من حكمة الله ومن خلق الله، ليست فيلماً صناعياً ولا تمثيلية إبداعية ولا مبدعة ولا مبتدعة ولا شيء من هذا القبيل أبداً. هذه المرة هي من خلق الحكيم سبحانه وتعالى. تفرج على الخلق، حينئذٍ ترضى وتسلم. الأعمال صور قائمة، هذه الصور القائمة
القالب ونقول القالب هكذا بفتح اللام قالب وليس قالِب. القالِب من يقلب الشيء، لكن هذا قالَب أي الصورة كأنها تمثال كأنها إناء. الأعمال صور قائمة، هذه الصور القائمة يمكن أن ندخل فيها روحاً. هذه الروح هي سر الإخلاص. انظر إلى نفسك، هل أنت من عموم الناس تحب دائماً أن يخلو عملك يجب أن يخلو من الرياء الخفي والجلي، فلتكن كذلك. أو إنك من المحبين الذين يحركهم إجلالهم
لله من أجل أن يفعلوا أكثر وأكثر، فلتكن كذلك. أو إنك من المقربين الذين تمكنوا من فصل أنفسهم والمشاهدة حتى يصلوا إلى التوكل والتسليم والرضا، فلتكن كذلك في إخلاصك، فإن الإخلاص... هو روح العمل إلى لقاء آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.