سورة الفاتحة | حـ 14 | آية 2 | تفسير القرآن الكريم | أ.د علي جمعة

سورة الفاتحة | حـ 14 | آية 2 | تفسير القرآن الكريم | أ.د علي جمعة - تفسير, سورة الفاتحة
بكتاب الله نعيش هذه اللحظات مع الفاتحة الشريفة الكريمة المباركة التي هي الأساس والكافية والشافية والفاتحة التي افتتح الله بها كتابه ورسالته للعالمين بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين. ذكرنا أن الحمد لله يعني كل الحمد بأنواعه المختلفة وأقسامه وجنسه مختص بالله سبحانه وتعالى، والله سبحانه وتعالى يملك. العبد وعمله وهو الذي كُلِّف وهو الذي أُمِر وهو الذي يقبل التوبة من عباده. ورب فيها
نوع من أنواع الرعاية والعناية، فيها نوع من أنواع النمو والتذكير، ولذلك يُطلق الرب في لغة العرب على نحو عشرين معنى، فيُطلق على الرجل أنه رب البيت لما يتصف به من سعي على الأرزاق. ومن وجوب النفقة عليه ومن الرعاية والعناية والقوامة المكلَّف بها لأهله وأولاده، فالرجل الذي بهذا الشأن يكون رباً للبيت، والرب هو المربي ولو لم يكن أباً أو
أماً. لماذا؟ لأنه يعتني بمن يربيه، لأنه يرعى. "كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته"، لأنه يرعى من تحته. والرب بمعنى الحاكم والملك والرئيس. إلى ربك، الرب بمعنى الحاكم لأنه راعٍ ومسؤول عن رعيته. إذًا كثرة الاستعمال هذه، هل هذا يجعل لكلمة "رب" معنىً مختلفًا أم أنها كلها تعود إلى الرعاية والعناية؟ بعض الناس من العلماء يقولون لا، هي كلها ترجع
إلى العناية والرعاية، فيجب أن يكون لكل كلمة معنىً جامع، وبعض... يقول العلماء: هناك فرق بين الحاكم وبين المربي وبين القلب، وأيضاً بين كل هؤلاء كبشر وبين الله. أما أسماء الله التي تُطلق على الناس وتُطلق على الله، فقد قال الإمام الغزالي إنها من قبيل المشترك اللفظي. وما المشترك اللفظي؟ هو أن تكون الحقائق مختلفة تماماً بحيث... أنه لا علاقة بين هذا وبين ذاك إلا اللفظ، فكلمة "عين" تعني بئرًا وتعني جاسوسًا. ما العلاقة بين الجاسوس والبئر؟ لا شيء، لا توجد
علاقة، فهذا مشترك لفظي. بل قد يكون المشترك اللفظي يُطلق على معنيين متضادين مثل "سليم"، فمن هو السليم؟ إنه الذي لدغته العقرب. فهو سليم والذي ليس مريضاً صحيح كامل فهو سليم، فيكون سليم تطلق على الصحيح والمريض، فتكون هذه من المشترك اللفظي، إذ لا يوجد بينهما أي علاقة. إذاً عندما نطلق على الله أنه رحمن، فهذه من الألفاظ التي لا يجوز أن نطلقها على أحد من البشر، لدرجة أن مسيلمة الكذاب... عندما أراد أن يتفاخر بنفسه أطلق على نفسه "رحمن اليمامة، رحمن
اليمامة"، لكن "الرحيم" يمكن أن نطلقها على البشر، "بالمؤمنين رؤوف رحيم" صلى الله عليه وسلم. فالنبي رحيم، ويمكن أن أقول إنك رحيم. ما العلاقة بينهما؟ ما هي الرحمة؟ قال: الرحمة هي شفقة في القلب. هل الله سبحانه وتعالى كالبشر؟ قال أبداً الربُّ ربٌّ والعبدُ عبدٌ، فيبقى إطلاقها عليك من قبيل شفقة القلب، لكن من الله معناه أنه قد وسعك برحمته، ليس أن له قلباً شفوقاً، لا، الله منزَّه عن هذا. فربُّ النعم هو الله الذي رعانا بعد ما خلقنا ورزقنا، فاعتنى بنا، وإذا مرضتَ فهو
يشفيك، فالله سبحانه وتعالى. كريم يعطينا من نعمه ويربينا. عرف المسلمون أحوالاً وجدوا فيها الناس عندهم قابلية للربانية. والربانية تعني فطراً سليمة تكون هذه الفطر قابلة للصلاح والإصلاح. يمكن أن يقولوا عنها: "رباه ربه"، أي أن الله هو الذي رباه. عندما يجدون شخصاً مؤدباً مفتوحاً عليه ولم يلقَ عناية شديدة من... البشر في فطرته
وسجيته ونحيزته - نحيزته تعني طبيعته، أي ما يجعله مهيأً للصلاح والإصلاح - قوم يقولون عنه رباه ربه، ومنه القول الشائع "أدبني ربي فأحسن تأديبي". هذا ليس حديثاً، بل هو باطل في نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن معناه صحيح. الذي قال هكذا قال أدبني ربي فأحسن تأديبي، من أين أتى بها؟ إنه من رؤيته لحال النبي صلى الله عليه وسلم أنه رباه ربه، من رؤيته لسيرته. لكن النبي لم يقل هكذا. حسناً، والمسلمون لم يتركوه. قالوا: انتهى الأمر. قال: لا، هؤلاء أهل توثيق بالكلمة، ليس عندهم الخرافات
التي في أذهان الناس والأساطير والحكايات هذا عندهم كلمة بكلمة وهذا شاهد على هذا القرآن، ها هو كلمة بكلمة، حركة بحركة، كله موجود منضبط مائة في المائة. رب العالمين، العالمون هذه على بعضها، يعني ما سوى الله، وليست جمعاً لكلمة عالِم، هم اختلفوا فيها. فانظر، الكتاب أمامك وكلمة العالمين أمامك وكأنها تلحق في. إعرابها بجمع المذكر السالم أمامك، فهو "رب العالمين" تكون "العالمين" مضافاً إليه، ولذلك جعلناها "العالمين" وليس "العالمون".
حسناً، عندما تقف أمام القرآن ومعك اللغة، واللغة واسعة، حتى قال الإمام الشافعي في شأنها: "لا يحيط باللغة إلا نبي"، وهذا ما سيجعل القرآن لا تنتهي عجائبه ولا يخلق من كثرة الرد. ويجعل القرآن كلما ازداد السقف المعرفي للناس قبلوا ما في القرآن من علوم تهدي الإنسان في حياته إلى سواء السبيل، ليست علوماً كونية، فهو لا يصادم حقيقة كونية أبداً، فكلمة "العالمون" هي عبارة عن جمع لكلمة "عالم"،
ومن الممكن أن يفكر أحدكم هكذا فلا يكون قد خرج عن اللغة القرآن، حسناً، وما هي هذه العوالم الكثيرة؟ إذ يوجد عالم الجن وعالم الإنس، وعالم الحشرات، وعالم النبات، وعالم البحار، وعالم الفضاء، وعالم الملائكة، وعالم الملأ الأعلى، وعالم الجنة، وعالم النار. كلها عوالم متنوعة، وبينها فوارق كبيرة، فهناك فرق بين الجماد وبين الحيوان وبين النبات وبين الإنسان وبين... وهكذا فيصبح هذا ممكن أن تكون جمع الآية لعالم، وممكن أن لا تكون هي على بعضها كلمة هكذا، كلمة على هيئة الجمع، لكنها تدل على ما سوى الله. حسناً، هي نفسها، فأنت عندما تمشي هكذا تصل إلى ما سوى الله، وعندما تمشي هكذا
تصل إلى ما سوى الله، ولكن... الفهم العميق الذي قد يفتح الله به عليك معنى جديداً يختلف ربما من هنا إلى هناك، فنستطيع أن نقول إن "العالمين" إما أن تكون جمعاً لـ"العالم"، وإما أن تكون اسماً لما سوى الله سبحانه وتعالى، ويكون إعرابها ملحقاً بجمع المذكر وليست من جمع المذكر، أي أنها تكون ملحقة بجمع المذكر. نستودعكم الله وأخيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.