سورة الفاتحة | حـ 15 | آية 3 | تفسير القرآن الكريم | أ.د علي جمعة

سورة الفاتحة | حـ 15 | آية 3 | تفسير القرآن الكريم | أ.د علي جمعة - تفسير, سورة الفاتحة
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. فمع كتاب الله نعيش هذه الدقائق المعدودات مع الفاتحة التي جعلها الله سبحانه وتعالى فاتحة خير لكل من تلاها. يقول ربنا سبحانه وتعالى: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، إذا... كرر مرة ثانية "الرحمن الرحيم"، والتكرار لا يمكن أن يأتي في كلام الله سبحانه وتعالى الموجز - والإيجاز إعجاز فيه - إلا لغرض. يجب أن تقف هكذا وتتأمل:
"الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم". لماذا؟ لكي يطمئن فؤادك، لأنه بدأ بالتشريف ثم بعد ذلك بالتكليف، وعندما ينتقل الانتقال من التشريف إلى التكليف يحدث له فزع لأن التكليف فيه مشقة والإنسان جُبِل على طلب الراحة، فلما قال بسم الله الرحمن الرحيم حدث له انشراح وأن الله سوف يرحمه ويعفو عنه، فلما قال الحمد لله رب العالمين شعر في قرارة نفسه بالتكليف أنه قد كُلِّف أن يشكر
ربه، يقول صلى الله عليه وسلم: "من لا يشكر الناس لا يشكر الله". هذا تكليف، فإذا أسدى أحدهم إليك معروفاً فلتقل له: "جزاك الله خيراً"، ومن قال لأخيه "جزاك الله خيراً" فقد أجزل له المثوبة. أي أنه قال له شيئاً طيباً، فهل هذا تكليف أم ليس تكليفاً؟ شعرت بذلك فوراً. العبد وهو يقول بسم الله الرحمن الرحيم انتقل إلى جمال الله، فلما يقول الحمد لله رب العالمين شعر بجلاله. فربنا يُذكّرك حتى تلحق نفسك ولا تغرق في الجلال ولا في المشقة ولا في التكليف، يلحقك ويقول لك: ماذا؟ الرحمن الرحيم.
ها، الذي كلفك رحمن رحيم، فيكون الرحمن الرحيم الأولى. تشريف والرحمن الرحيم، الآخِرانية لا تُهدئه، هذا يُهدئ بالك سبحانه وتعالى يا حبيبي يا رب. بسم الله الرحمن الرحيم، الرحمن الرحيم، لا هذه جميلة جداً والحمد لله رب العالمين الذي في الوسط. وأنت أديت التكليف الذي عليك بأن شكرت ربك ورب العالمين، هذه أمر لو تصورت كلمة حتى العالمين. ما أنت لن تستطيع أن تتصور ربك، فكل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك. كيف تتصور العالمين! هذا النبي عليه الصلاة والسلام يقول إن السماء الأولى
بالنسبة إلى الثانية كحلقة في فلاة في صحراء كبيرة، والسماء الثانية في الثالثة كحلقة في فلاة، والثالثة في الرابعة كحلقة، إلى سبع سماوات ثم... السماء السابعة حلقة في فلاة، والعرش كيف شكله؟ يعجز عقلك أن يتصوره وتشعر بالضآلة. فأنت عندما تقول: "الحمد لله رب العالمين" يحصل لك اهتزاز، فيلحقك بقوله: "الرحمن الرحيم" ليهدئ من روعك. كما قال تعالى لموسى: "وما تلك بيمينك يا موسى" فسأل عنها وهدأ من روعه هكذا. لأنه حصلت له مهابة، "خذها ولا تخف، سنعيدها
سيرتها الأولى"، ولا تخف لأنه خاف فولى مدبراً ولم يعقب. خاف فحصلت له آية تطمئنه. أليس هو الرحمن الرحيم؟ هذه الآية الثانية تهدئ بالك لكي تعرف كيف يكون شكل الدين. شكله رحمة في رحمة في رحمة في رحمة. ماذا يقول بعد هذا يقول لك إنني الرحمن أنا الرحيم، أنا الرحمن أنا الرحيم. كلام ربنا ليس عبثًا، كلام ربنا يُفهم تمامًا بالحروف وليس بالكلمات، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى، ارحموا من في الأرض يرحمكم
من في السماء". المحدثون يجعلون هذا الحديث أول حديث يذكرونه. في مجالسهم لطلابهم، أول حديث يجيزون به هو الحديث المسلسل بالأولية. ما هو المسلسل بالأولية؟ كل شيخ يقول لتلاميذه: هذا الحديث هو أول ما يُفتتح به الدرس أو الإجازة التي تُلقى، حتى يصبح كل طالب عبر التاريخ يقول: "حدثني شيخي، وكان أول حديث يحدثني به هو هذا: الراحمون يرحمهم الرحمن مَن في الأرضِ يرحمكم مَن في السماء. حسناً، ولماذا جعلوا هذا الحديث أولاً هكذا؟ قالوا تأسياً بالكتاب، أي اختاروه ليكون أول حديث تأسياً بالكتاب. أين
الكتاب؟ ماذا يقول؟ يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم. مرة ثانية يقول له: الرحمن الرحيم، إذاً... تاسعاً: بالكتاب قلنا إن الرحمن معناها رحمن الدنيا، يرحم المؤمن وغير المؤمن. الملحد الذي ينكر وجوده سبحانه وتعالى أيضاً يرحمه ويطعمه ويسقيه ويخفف عنه، وربما هذا الملحد لو تتبعته تجده لا يعاني أبداً من رحمة ربنا، من واسع رحمته، لعله يرجع. قالوا لأن الله يحب صنعته، فالإنسان أصلاً هو صنعة هذا لا شأن لك به، سواء كان ملحداً كافراً مسلماً مفسداً، لا شأن
لك بهذا الأمر. لكنه من خلق ربنا أم لا؟ هو من خلق الله، ابن آدم أم ليس ابن آدم؟ إنه ابن آدم. قال الله تعالى: "ولقد كرمنا بني آدم". عندما كرمهم الله، لماذا أنت غير راضٍ بإكرامهم؟ وفسق وفساد وإلحاد وكفر، سنعود أيضاً. الأصل أن هناك شيئاً اسمه يوم القيامة. هذه الدنيا ليست مبلغ علمنا ولا غاية همنا، بل هناك شيء اسمه يوم القيامة قادم. مالك يوم الدين، يعني إيمانك بيوم القيامة يجعلك رحيماً بالبشر لأن الحساب ليس هنا، والنزاع والجدال ليس هنا، والحقيقة المطلقة والبرهان الذي لا يُرَدُّ، ليس هنا، نحن
نسعى إلى معرفة اليقين والبرهان، ولكن أغلب البشر غير راضين، غير راضين بهذا. هو حر، "لكم دينكم ولي دين"، "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي". فماذا نفعل في هذه الإنسانية؟ نفعل فيها التبليغ، "بلغوا عني ولو آية"، "ادعُ إلى سبيل ربك". بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن، أي إذا كرر الرحمن الرحيم تهدئة للبال وللقلب. الرحمن رحمن الدنيا، ورحيم الآخرة، وكان بالمؤمنين رحيماً. أي
إنه في الدنيا يعامل المؤمن وغير المؤمن، فيرزقه ويستره ويقبل توبته إذا تاب قبل الموت، ويفتح أبوابه له ويستجيب دعاءه إذا كان مظلوماً. انظر كيف؟ لماذا قالوا؟ لأنه صنعته وهو يحب صنعته سبحانه وتعالى. إذاً الرحمن الرحيم الثانية هذه في تكرارها إعجاز، لأنه لو تخيلنا أن أحداً يكتب هذا من عند نفسه فإنه لا بد أن يكون قد اطلع على قلوب البشر وعلى أحوالهم وعقولهم ونفوسهم،
وليس هذا لأحد من البشر إلا الله. يَعلَمُ مَن خَلَقَ وهو اللَّطيفُ الخَبيرُ، هو عَليمٌ بِذاتِ الصُّدورِ، وليسَ أحدٌ مِنَ البَشَرِ بِقادِرٍ على أن يَعلَمَ ما في الصُّدورِ ولا ما في العُقولِ ولا ما عِندَ البَشَرِ مِن تَقَلُّباتٍ في قُلوبِها، وما سُمِّيَ القَلبُ إلا لأنَّهُ يَتَقَلَّبُ. إذاً على هذا المِنوالِ، فَسَرَّ بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحَمدُ للهِ. رب العالمين الرحمن الرحيم، وإلى لقاء آخر، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
    سورة الفاتحة | حـ 15 | آية 3 | تفسير القرآن الكريم | أ.د علي جمعة | نور الدين والدنيا