سورة الفاتحة | حـ 17 | آية 5 | تفسير القرآن الكريم | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله نعيش هذه الدقائق المعدودات مع الفاتحة. قال تعالى: "بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين"، ثم يأتي قوله تعالى: "إياك نعبد وإياك نستعين"، "إياك" قُدِّمت. هنا على كلمة "نعبد" وترتيبها في العربية على كلام العرب "نعبد إياك"، يعني دائماً المفعول به يأتي بعد الفعل، لكن هنا قدّمه فجعلها "إياك"، قالوا للاختصاص. هذه التركيبة معناها لا نعبد رباً
سواك، لا نعبد إلا إياك. ومن أين يأتي هذا الاختصاص؟ ليس هناك شيء اسمه يعني نخصك أنت. وحدك بالعبادة. لا في كلمة نخصك، ولا في كلمة وحدك، ولا في كلمة لا وإلا، ولا في شيء نأتي به من أي مصدر. من أين أتى هذا الكلام؟ قال: ها هو أمامك يا أخي "إياك نعبد". لم يقل "نعبد إياك" بل قال "إياك نعبد"، إذن هنا شيء مهم وهو أن المعنى فلا بد علينا من دراسة تراكيب العربية "إياك نعبد". حسناً، أين تظهر أهمية هذا؟ قال: تظهر عند الترجمة، لأن الترجمة لا تكون
لكلام الله أبداً، وإنما تكون ترجمة لمعاني كلام الله سبحانه وتعالى. فهناك فرق بين كلام الله الذي هو بالعربية وهو ثابت، وبين المعاني التي تستفاد عن طريق العربية من كلام الله سبحانه وتعالى، فيمكن لمن يريد أن يترجم "إياك نعبد" بـ "نعبدك وحدك لا شريك لك" أن يكون صادقاً، بالرغم من أنه لا يوجد هنا "وحدك"، ولا "شريك لك"، ولا تخصيصك بالعبادة، ولا شيء من هذا القبيل في التركيبة الداخلية للجملة "إياك". نعبدك وإظهارًا للحقيقة ودعوة للأمة. مفهوم الأمة، مفهوم الأمة لا أحد يرضى أن يفهمه ونحن حائرون فيه. ما معنى هذه الأمة؟ ماذا
تعني؟ يقول "إياك نعبد" ولم يقل "إياك أعبد". عندما تناجي ربك وفي الصلاة لا تقول أنت وحدك هكذا، لأنك لست وحدك الذي يعبد ربنا، فربنا يُعبد. الجن والإنس يعبدون الجماد والحيوان والنبات ويعبدون الظاهر والباطن من مخلوقات الله. ثانياً، لِينوا في أيدي إخوانكم، إن الله لا ينظر إلى الصف الأعوج، فأمرنا بالجماعة. عليكم بالجماعة وأنت واقف في الصلاة. أنت فرد من أمة تتوجه بكليتها إلى البيت الحرام، فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام، فأنت وأنت تقول... نعبد جزءًا من كون يعبد
ربه، وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحه. جزء من كون يسجد لربه، جزء من كون مخلوق لربه، جزء من كون مسخَّر من ربه لك. ألم تر أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة. ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. فأنت وأنت تقف في الصلاة وتقول "إياك نعبد"، تشارك الكون في سجوده لله وفي عبادته وفي ذكره له سبحانه وتعالى. فأنت جزء من هذا الكون ولكنك سيد فيه.
الآخرون يقولون إنك جزء من هذا الكون. فعملك مثل الشجرة مثل البقرة مثل الشيء، قطعة لحم ويجلسون إذاً يدرسون فيك مثل قطعة لحم. لا، نحن مكرمون، مسخر لنا هذا الكون. نحن نعم، نحن مادة صحيح ولكن نعم، ولكن تكون دائرتنا أوسع من دائرتهم. أنا مادة، نعم أنا أعرف، ولو جُرحت هكذا ينزل دم، أنا أعرف ذلك وفي... خلايا، أنا أعلم ولكنني مخلوق من مخلوقات الله، ولكن فيها جانب آخر وهو أنني أعبده وأعبده بتكليف لا بحال. هناك عبادة بالتكليف وهناك عبادة بالحال. الجبل يسبح بحاله والنهر يسبح بحاله، هكذا المخلوق يسبح، لكنني أسبح بعقلي. يمكنني أن أسبح
ويمكن ألا أسبح، يمكنني أن أذكر الله ويمكن واحد. مِنَ البَشَرِ مَنْ يَسُبُّ اللهَ - وَالعِيَاذُ بِاللهِ تَعَالَى - فِي التَّكْلِيفِ، فَهُنَا إِذَنْ وَجُودُ الثَّوَابِ، فَأَنْتَ عَلَى قِمَّةِ الكَائِنَاتِ، وَالكَائِنَاتُ مُسَخَّرَةٌ لَكَ، لَكِنَّكَ تَعْبُدُ اللهَ كَعِبَادَتِهَا وَأَكْثَرَ، فَإِذَا لَمْ تَعْبُدِ اللهَ كَانَتْ هِيَ أَفْضَلَ مِنْكَ، "إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا"، إِذَنْ يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَقِفَ عِنْدَ نحن توقفنا عند تقديم "إياك"، ونقف عند النون "إياك نعبد". لم يقل "إياك اعبد"، فكلمة "اعبد" تعني أن كل واحد بمفرده، فلا توجد دعوة، ولا توجد أمة، ولا توجد علاقة بينك
وبين الكون. ولكن "نعبد" تعني أنني جزء من الكون، وإن كنت سيداً فيه وليس له، فإن سيد الكون هو... الله، أنا على أعلى مراتب هذا الكون وأشاركه العبادة، أنا من أمة تتوجه إلى البيت الحرام، أنا من جماعة مسلمين يصلون الجماعة لله رب العالمين. إذن، إذا كان الأمر كذلك، فأنت صاحب دعوة تريد أن تبلغها للناس، تصدهم عن الشر وتدعوهم إلى الخير من غير إكراه من ناحية وبوضوح. وبيان وبلاغ من ناحية أخرى إذا هذا هو المسلم يعبد ربه ويشرح
دينه ويرى نفسه أنه في أمة ممتدة عبر الزمان فإن كل الرسل إنما هم من أمة الإسلام ابتداءً من آدم وانتهاءً بسيد الناس سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وأمته ممتدة بعد محمد صلى الله عليه وسلم عبر الزمان والمكان في كل الأرض بكل الأجناس بكل الألوان بكل الطوائف، وهناك أمة دعوة لكل من على الأرض، ستة مليار الموجودين اليوم هم أمة الدعوة، وهناك أمة إجابة وهم الذين صدقوا بالحبيب المصطفى المجتبى صلى الله عليه وآله وسلم. نعم، ذلك هو المسلم. "إياك نعبد" آتية من النون، و"إياك
نستعين" هناك عبادة وهناك عِمارة. في العبادة نحن قد أخلصنا الدين لله فلا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون. ولكن هناك حياة قد أُمرنا بعمارتها، فماذا نفعل؟ نستعين بالله، لا حول ولا قوة إلا بالله، لكن ترك الأسباب جهل، والاعتماد عليها شرك. لا حول ولا قوة إلا بالله. جعلت الفلاح يلقي البذار ثم يدعو قائلاً: يا رب. لا يصح أن يجلس في بيته ويقول: يا رب أنبت الزرع. هذا
لا يصلح، فإن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة. وعندما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد لبس درعين فوق بعضهما، فقد اتخذ الأسباب حتى قالوا: قال عليه وسلم: "لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما تُرزق الطير، تغدو خماصاً وتعود بطاناً". تخرج في الصباح جائعة وترجع شبعانة. قالوا: تذهب وتعود، لا تبقى في أوكارها وفي أعشاشها في الصباح وقالت: "يا رب ارزقني"، فأنت ترزق الطير في السماء. لكن أيضاً لا بد من الحركة، فهذا هو بين العبادة
وبين الاستعانة، ولذلك ابن القيم عندما شرح منازل السائرين بين "إياك نعبد وإياك نستعين" شرحها في ثلاث مجلدات. منازل السائرين للهروي، ماذا يقول فيها؟ يقول: "مدارج السالكين في شرح منازل السائرين". السائرين بين ماذا؟ أين البداية والنهاية؟ بين "إياك نعبد وإياك نستعين". قال: يعني هذه ثلاث مجلدات لأجل. ينتقل أو يدور في دائرة هي دائرة الوجود بين ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ وإلى لقاء آخر نستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.