سورة الفاتحة | حـ 18 | آية 5 | تفسير القرآن الكريم | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله نعيش هذه اللحظات مع فاتحة الكتاب، وكنا قد عرجنا على قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، وأن هذا قد يكون في دائرة لا نعرف بدايتها من نهايتها، أين تقع البداية في خاصتها وأين النهاية؟ ضع يدك على أي شيء في محيطها. إن الدائرة من عجائب المخلوقات التي يفهم بها المؤمن أسراراً كثيرة. الدائرة والمرآة والشمعة والنقطة والخط،
هذه أشياء عندما تستوعبها تجد فيها أشياء غريبة جداً. كيف يكون المتعدد المحصور في وضع غير محصور؟ كيف يكون غير المحصور؟ كعلم الله في وضع محصور كيف يكون، وهكذا تجد هذه الدائرة لا تعرف بدايتها من نهايتها، لكن لو وضعت يدك على أي نقطة فيها يجوز لك أن تجعلها بداية وهي في ذات الوقت من الطرف الآخر نهاية. فـ"إياك نعبد وإياك نستعين" ليست في خط مستقيم، بل تظهر في دائرة. لأن الاستعانة عبادة والعبادة استعانة.
الألف والسين تدخلان في اللغة العربية للطلب، فاستعانة تعني طلب المعونة. وأنت عندما تقف لتطلب من ربك وتدعو ربك وتذكر ربك، ألست تستعين به؟ إذن، العبادة استعانة أيضاً. وأنت عندما تستعين بربك وتُظهر له خضوعك وطلبك وسؤالك ودعاءك، أليست هذه عبادة؟ عبادة، أليس النبي عليه الصلاة والسلام قال: "الدعاء هو العبادة"؟ هناك أيضاً حديث "الدعاء مخ العبادة"، أي أعظم شيء في العبادة. أبو هريرة كان يروي الحديث وهو أصح سنداً، يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدعاء هو العبادة". وإن لم
تصدقوني فاقرؤوا قوله تعالى. من الذي يقول؟ وإنْ لم تصدّقوني، فسيدنا أبو هريرة كأنه يقدم إثباتاً على الرواية. يتضح أن جماعة المسلمين هؤلاء أمةُ علمٍ وتوثيقٍ وإثباتٍ وإسناد، وليست أمةً تقول أي شيء دون دليل. وإن لم تصدقوني، فاقرؤوا قوله تعالى: "وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم". داخرين يكون سمى الدعاء عبادة أم لا، سمى الدعاء عبادة، هذا ما قاله أبو هريرة رضي الله تعالى عنه. إذاً الاستعانة وهي نوع من أنواع الدعاء عبادة، والعبادة استعانة.
إذاً رسم الدائرة "إياك نعبد وإياك نستعين" ليس لها بداية ثم نهاية وننتهي، هذا خطأ. لها بداية وذات البداية هي النهاية نفسها، كيف نفهم هذا؟ أي أن الشيء يكون هو نفسه. النقطة، ضع نقطة هكذا. ما هي هذه النقطة؟ قال لك إن هذه النقطة أصغر شيء، أي أنها لا تتجزأ. حسناً، وعندما لا تتجزأ تكون البداية هي النهاية. ها هي أمامنا، انظر، عندما تضع نقطة طيب، هذه النقطة بداية الدائرة أم نهايتها؟ ستجيبني قائلاً: "والله، هي بدايتها وهي نفسها نهايتها". قلت لك: "طيب، والنقطة التي قبلها؟" قلت لي: "لا تكون تلك هي
الدائرة، لا بد أن تذهب الدائرة إلى هذه النقطة بالذات". هكذا هو، لأن الدائرة والنقطة لا تنقسم من ضمن... من خصائصها أنها لا تُقسم، فإذا أعطانا الله تعالى أمثلة في الكون المحيط بنا "أفلا يتدبرون القرآن"، هذا هو التدبر: أن تقرأ وتفهم، ثم تنظر إلى الكون من حولك لتتأمل وتعتبر، "فاعتبروا يا أولي الأبصار". لا تقرأ هكذا مجرد إنهاء: أنهيته في أسبوع، أنهيته في ثلاثة أيام، لا. هذه عبادة هكذا في حد ذاتها لكن هذا ليس تدبراً. أن تقف مع كل كلمة هكذا "إياك نعبد وإياك نستعين" هذه تمثل عمل الدائرة. طيب وما معنى هذه الدائرة؟ هذه الدائرة فيها شيء غريب
جداً، امشِ فيها هكذا تجد أنك لم تنتهِ، فهي تحمل معنى الديمومة والاستمرار. لو مشيت في هنا إلى غاية باب المسجد اتصل وانتهى، من هنا إلى هناك بداية ونهاية. هل العبادة لها نهاية؟ لا، "واعبد ربك حتى يأتيك اليقين" الذي هو الموت، إلى أن يُحال بينك وبين العمل. إذن هي ليس لها نهاية. إذن القائلون بأن: "والله أنا وصلت" يكون دجالاً على الفور. ما أنت لو ألم تلاحظ أن العبادة استعانة والاستعانة عبادة وأنهم يرسمون دائرة؟ لن تدرك هذا المعنى، فالقرآن هاهو يرد على أولئك الذين يقولون: "أنا وصلت، ولذلك لا أعبد ربي
وسقط عني التكليف، ولا داعي للصلاة ولا للزكاة". فهذا الإنسان لم يفقه شيئاً من القرآن، فالعبادة لأنها في دائرة الاستعانة مستمرة والاستعانة لأنها في دائرة العبادة مستمرة، وسيسير الإنسان في دائرة أبداً لا تنتهي، لا يعرف النهاية لأنه لا بداية ولا نهاية، إنما هو فضل الله يؤتيه من يشاء. إياك نعبد وإياك نستعين. لو جلسنا هكذا فيها سنتين أو ثلاثة لن ننتهي. الرجل ابن القيم كتب فيها يقولون عن مجلدات سيدنا علي - رضي الله عنه - أنه عندما سُئل عن سورة الفاتحة، قال:
"أملي فيها سبعين"، وأقرب تعبير لذلك أي ما يكفي لسبعين جملاً تحمل الكتب التي ستفسر الفاتحة. وقليل الكلام يُغني عن كثيره، ولكن المقصود أن هذا الكتاب العجيب الغريب - لأنه من عند رب صلى الله عليه وسلم، لكنه هدىً للمتقين، فادخل فيه بتدبر وتأمل، يفتح عليك فيه من المعاني ما تستقيم به حياتك. وإذا دخله لاعب يريد أن يلعب معه وأن يعبث، أغلق عليه أبوابه والعياذ بالله تعالى. من أراد الاستهداء فتح له كنوزه، ومن أراد غير ذلك أغلق عليه وأمامه، وهو
كلمة. واحدة معجزة ولو جعلناه قرآنًا أعجميًا لقالوا لولا فُصِّلت آياته أأعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد. انظر الفرق بين الاثنين: واحد دخلوا ليسترشدوا به، والآخر دخلوا ليتلاعبوا معه. الذي دخلوا ليتلاعبوا معه ماذا يحصل ضلالة وتيه لأن في أذنيه وقر، وهذا الوقر يمنعه من الاستماع. وقال الذين كفروا: "لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون". ضجة وصخب.
والثاني أبداً، فهو دخله وهو متقٍ وهو يقرؤه ليستهدي به ويتدبره. "هدى للمتقين"، فيه هدى وشفاء. فإذن يجب على الناس أجمعين أن يدخلوا إلى القرآن باعتباره إياك نعبد وإياك نستعين وإلى لقاء آخر نستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله