سورة الفاتحة | حـ 19 | آية 6 | تفسير القرآن الكريم | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. فمع كتاب الله سبحانه وتعالى نعيش هذه الدقائق مع الفاتحة الكافية الشافية الأساس التي يقرؤها المسلم في صلاته كل يوم، والتي جمع الله فيها طريق هذا المسلم من العبادة ومن العمارة ومن تزكية النفس. ولذلك قالوا إن الله سبحانه وتعالى قد وضع ما ذكره في القرآن في الفاتحة، ووضع ما ذكره في الفاتحة في البسملة، ووضع ما ذكره في البسملة في حرف الباء،
وكأنه يُشعِر السامع بأن يكون ما يكون وقد كان ما كان، ولا يكون في كونه سبحانه إلا ما أراد، فكأنه يقول. لا يكون في هذا الكون شيء إلا بخلق الله وبأمر الله وبإذن الله، وطبعاً هذا يأتي من الصوت وليس يأتي من المعنى، يأتي من تفاعل المسلم بهذا الكتاب الكريم وليس يأتي من التفسير. بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين. وهذا قد تعرضنا له في حلقات سابقة، ثم يقول: اهدنا الصراط المستقيم. "اهدنا"
فعل أمر، وفعل الأمر عندما يأتي من الأعلى إلى الأقل يكون عادة للوجوب، عادة يعني غالباً يكون للوجوب. "أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل"، "آتِ الزكاة"، "أمر بالمعروف"، "انهَ عن المنكر"، كل هذه أوامر، والأوامر ما... دامت قد صدرت من الأعلى وهو الشرع الشريف من الله أو من سيدنا رسول الله فهي للوجوب غالباً، لأنها قد تكون للتهديد، قد تكون للإهانة: "ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ"، "ذُقْ" هذه تعني ذُقْ عذاب جهنم. حسناً وهل هذه
واجبة؟ كلا، هذه إهانة. فقد يكون الأمر لغير الوجوب، أما إذا... صدر من الأقل إلى الأعلى فلا يكون أمراً واجباً، إنما يكون توسلاً ودعاءً ورجاءً وأملاً في وجه الله سبحانه وتعالى. فلما صدرت هذه الكلمة من المؤمن إلى الخالق سبحانه "اهدنا"، فلا بد أنها دعاء. فالإنسان وهو يقول: "يا رب اهدني"، فإنه يكون قد دعا. الأمر من الأعلى إلى... الأدنى واجب ومن الأدنى إلى الأعلى دعاء توسل، طبعاً يضيفون صنفاً آخر وهو من المساوي للمساوي،
ليس لنا شأن به لأن من المساوي للمساوي رجاء، أي أنني أرجو منك أن تسقيني ماءً فتسقيني ماءً. لكن الذي نريد أن نقف عنده هنا هو أن هذا أمر، ولكن هذا الأمر عندما كان... من الأدنى إلى الأعلى كان دعاء، وهنا في القرآن ستمر علينا كثيراً هذه الصيغة. هي أمر في اللغة لكنها دعاء في الشريعة لأنها من الأدنى وهو البشر إلى الأعلى وهو الله رب العالمين سبحانه وتعالى. يقول "اهدنا"، ما حقيقة الهداية؟ تطلب منه الهدى، فما هو
هذا الهدى وما هو؟ الهداية قالوا الهدى هو أن يهديك الله سبحانه وتعالى، وهناك ثلاثة أنواع من الهدى: الهدى بمعنى التوفيق - خلق التوفيق للعبد - أن يخلق الله فيك التوفيق، والتوفيق هو القدرة على أداء الطاعة. عندما يوفقك الله، فهذا هو الهدى. والهدى، وهذا الذي قال الله فيه: "إنك لا تهدي من أحببت"، صلى الله عليه وسلم لأنه بشر يهدي بمعنى يوفق بمعنى يخلق قدرة الطاعة عند العبد ما
يستطيع، ليس في يديك هذا بل بيد ربنا فقط، إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء، فيكون إذاً الهدى الذي هو خلق التوفيق والطاعة للعبد لا يمكن أن يكون إلا من الله. الهدى الثاني هدى الدلالة وإنك لتهدي. الله هذا نحن نقول أنه لا يهدي وجئنا هنا نقول تهدي. قال: لا، هذا هدى دلالة وإرشاد. سيدنا رسول الله ما تركنا إلا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك. قال: ما تركت شيئاً يقربكم إلى الله يقربكم إلى الجنة. يبعدكم عن النار
إلا وقد أمرتكم به، وما تركت شيئاً يبعدكم عن الله، ويبعدكم عن الجنة، ويقربكم من النار إلا نهيتكم عنه. فالنبي عليه الصلاة والسلام أمر ونهى ووضّح وبيّن ودلّ على طريق الخير. إذن، "اهدنا" الرقم اثنين ما معناها؟ الدلالة. الهدى هنا معناه الدلالة، والرقم ثلاثة هدى المكان مثل الكعبة هكذا، هذا المكان، عندما تدخل الكعبة تشعر وكأنك تغيرت، كأنك انتقلت من دنيا إلى شيء آخر. وأول ما ترى الكعبة يحدث لك شيء غريب عجيب يعرفه كل الناس، لدرجة أن الكعبة تجذبهم فلا
يستطيعون الصبر عنها. ولذلك تجد بعض الأغنياء يحجون كل سنة ويؤدون العمرة. ثلاث أو أربع مرات وتقول له: "لماذا لا تدفع هذه الأموال لوجه الله للفقراء والمساكين وما شابه؟" فيقول لك: "لا أستطيع، إنني مشتاق -يا أخي- سبحان الله، الكعبة هكذا، فعندما أدخلها يحدث لي حال". ما هذا؟ ليس واحداً ولا اثنين ولا عشرة ولا مليوناً، بل هؤلاء الناس جميعهم، فماذا يحدث؟ ما هو إن هناك آيات بينات مثل مقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً. فالهدى على ثلاثة أقسام: هدى توفيق، وهدى دلالة، وهدى مكان. فعندما نقول "اهدنا" فإننا نريد في "اهدنا" -
أي نطلب منه الهدى والهداية. يصح أن أقول له "اهدنا" أي وفقنا واخلق فينا القدرة، ويصح أيضاً أن أقول لأنه سألوا سيدنا علي قالوا له: ما أصعب شيء عليك يا إمام؟ قال: أن تُفهِم من لا يفهم. فالبُعد عنك الشخص الذي لا يفهم، يكون وقتك غير مُجْدٍ. لكن عندما ينوِّر الله بصيرتك وتفهم، فإن أول درجات العمل أن تفهم. مراد الله من خلقه، تفهم فائدة هذه الطاعة في الفهم هي نعمة من عند الله، فـ"اهدنا"
بمعنى فهِّمنا، وذلك لأن الإنسان عندما يفهم الحقيقة يعمل وهو فاهم. فيصح أن نفسر "اهدنا" بمعنى فهِّمنا، ويصح أيضاً تفسير "اهدنا" بمعنى اجعلنا في مكان الهداية. ويصح كذلك أن نفسر "اهدنا" بمعنى اجعلنا في مكان الهداية كما يحكي النبي صلى الله أن رجلاً قتل تسعة وتسعين نفساً، قتل تسعة وتسعين شخصاً، وبعد ذلك جاء يتوب، فذهب إلى رجلٍ عابدٍ لا يفهم شيئاً وقال له: هل لي توبة؟ قال له: لا توبة لك، أنت رجلٌ قتلت تسعة وتسعين نفساً، وما كانوا
دجاجاً، بل تسعة وتسعين إنساناً، وتأتي تقول لي تُب؟ فقتله، فأكمل هو صدَّق أمامه رحمة ربنا فأصبح قد قتل مئة شخص، فذهب إلى عالم فقال: هل لي أن أتوب؟ قال: نعم، من تاب الله عليه. ولكنني أراك بأرض قوم سوء، كيف تركوك تقتل مئة شخص دون أن يضربوا على يديك، دون أن يقبضوا عليك، دون أن يضربونك ويعاقبونك ويمنعونك منك أنت تتمتع هكذا هو في الأرض تقتل مئة فإني أراك بارداً، قوم سوء، فاذهب إلى أرض كذا وكذا ففيها أناس يعبدون الله، ففي مكة وهي لم تصبح بعد دار إسلام، سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نصحهم
أن يذهبوا إلى الحبشة فإن فيها ملكاً لا بعض الظلم الذي كانوا يرونه في مكة، وسيدنا رسول الله ترك مكة وهاجر إلى المدينة عندما أيده الأنصار وآمنوا به. ترك بلده الحبيبة، وطنه، قائلاً: "إنك أحب أرض الله إلي، ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت". وورقة بن نوفل قال له: "لعلني أكون فيها جذعاً إذ يخرجك قومك"، فقال: "أومخرجي هم على سبيل التحسُّر والفزع، فزع سيدنا رسول الله من أنه لا يخرج من وطنه، ولذلك جعلوا النفي عن الأوطان نوعاً من أنواع العقاب. الجلد مائة وتغريب عام للذي يزني، تُخرجه
من بلد ومن مدينة وتأخذه إلى مدينة أخرى، فيتألم. فإذا كانت هناك هداية مكان، فيمكن أن تكون هداية مكان يعني "اهْدِنَا" أي أَنْزِلْ علينا هدى التوفيق وهدى الدلالة والفهم وهدى المكان. يؤيد هدى المكان قوله: ليس "اهْدِنِي" بل "اهْدِنَا" جميعاً، فأنت تدعو لنفسك وتدعو لغيرك، لأن الإنسان بإخوانه. وإلى لقاء آخر نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.