سورة الفاتحة | حـ 20 | آية 6 | تفسير القرآن الكريم | أ.د علي جمعة

سورة الفاتحة | حـ 20 | آية 6 | تفسير القرآن الكريم | أ.د علي جمعة - تفسير, سورة الفاتحة
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله نعيش هذه اللحظات، وما زلنا في فاتحة الكتاب التي هي الأساس. قرأنا فيها "اهدنا"، وقلنا إن كلمة "اهدنا" يجوز أن تكون لكل المعاني التي هي لها، فاهدنا بمعنى أنزل علينا هدى. التوفيق واهدنا بمعنى أنزل علينا هدى الدلالة، واهدنا بمعنى أنزل علينا هدى المكان، اهدنا. هل هناك فرق بين الهدى والهداية؟ قالوا:
الهداية ينتج منها الهدى، يعني الهداية هي العملية الناتجة منها الهدى. وبعضهم قال: الهداية هي نتيجة الهدى. أيهما الصحيح؟ أيكون الهدى نتيجة الهداية؟ أم الهداية نتيجة الهدى؟ أم أن لا تَعرف قَبلَها من دَبرِها، الهدى يُنتِج هدايةً والهدايةُ تُنتِج هُدًى. وهنا يقول "اهدِنا"، فقد جَمَعَ بين الأمرين: جَمَعَ بين الهدايةِ التي تؤدي إلى الهدى، وبين طلبِ الهدى الذي يؤدي إلى الهداية. الهدايةُ تعني الاستقامة، والهدايةُ تُحدِث هدوءًا في النفس.
والهدايةُ عندما تكونُ في الجماعةِ كلها، في قومٍ، تجعلُ الأمةَ هذه أمتكم أمة واحدة وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا. الأمة شاهدة والأمة خيرية، كنتم خير أمة أُخرجت للناس. وكما قالوا إن الإنسان بإخوانه، يعني لا يصلح أن يعيش وحده، لدرجة أن الناس الذين تأملوا في الكون من غير وحي ومن غير ديانة وما الإنسان حيوانٌ اجتماعيٌ لا يعرف أن يعيش وحده، ولا يستطيع أن يذهب ليعتزل في الغابة أو في الجبل بمفرده، بل يحتاج إلى آخرين، بل إن التناسل والتكاثر يحتاج إلى
الزواج، فيحتاج الإنسان إلى غيره، وهي غرائز قد فطرها الله في النفس، ومن هنا جاء اهدنا، يثير هذا أن الكلمة عندما كذا معنى قوم يسمونها مشتركاً، فهنا "اهدنا" معناها وفقنا، ومعناها دلنا وعرفنا وبيّن لنا، ومعناها اجعل المحيط الخاص بنا حسناً وجيداً وخيراً. إذاً لها ثلاثة معانٍ، أليس كذلك؟ يصح أن تشمل كلمة واحدة المعاني الثلاثة مرة واحدة، وهذا ما سيفيدنا في التفسير كله. يصح أن يكون للكلمة معنى حقيقي ومعنى أنه نجمع بين الاثنين قالوا نعم يصح. "إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ
عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا". انتبه إلى هذا الكلام، من الذي يتحدث ويقول هكذا؟ سيدنا الإمام الشافعي يقول لك، ماذا يقول؟ "إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ"... حسناً، الصلاة الصادرة عن الله. ما طبيعة الرحمة؟ وما طبيعة الصلاة الصادرة من الملائكة؟ إنها الدعاء. إذن الصلاة قد تُطلق ويُراد منها الرحمة لأن الله يصل نبيه بها. اجعله هكذا "رحمة للعالمين"، "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين". والنبي يقول عن نفسه: "إنما بُعثت رحمة مهداة". فرب النبي يصلي على
النبي، أي يجعله رحمة للعالمين. وسيداً للمرسلين صلى الله عليه وسلم، حسناً، والملائكة، هؤلاء الملائكة تدعو قائلة: "اللهم بارك، اللهم ارحمه، اللهم أعلِ رتبته، اللهم، اللهم"، ها، حسناً، هذه في كلمة واحدة "إن الله وملائكته يصلون"، فتصبح كلمة "يصلون" استُعملت قبل ذكر الله سبحانه وقبل ذكر الملائكة أيضاً بلفظة واحدة، فعندما كانت الكلمة... تعني معنيين أو ثلاثة يجوز استعمالها في معانيها كلها، فيبقى إعجاز في إعجاز كلمة
واحدة ولها هذه المعاني كلها. هذه المعاني قالوا: لكن انتبه، أمتناقضة هي أم غير متناقضة؟ قالوا: إن الاختلاف نوعان: اختلاف تنوع واختلاف تضاد. اختلاف التضاد يكون متناقضًا، واختلاف التنوع لا يكون متناقضًا، فيجوز هذا. وهذا قال له هذا إذن الذي يصلح أن نستعمل المشترك في معانيه أو الكلمة التي تدل على الحقيقة والمجاز في الحقيقة والمجاز يصلح أن نفعلها هنا لماذا؟ إلا أن المعاني ليست متضاربة. يا رب اهدني واهدنا بشيء يخلق في قدرة الطاعة وتفهمني وتجعل
الذين حولها كلهم مهتدين. يجري شيء. في تناقضٍ، يكون معنى "اهدنا" هنا شاملاً للجميع، ثم ذكَرَ "الصراط المستقيم" أي أرشدنا ودلّنا وما إلى ذلك على هذا الصراط المستقيم. والصراط المستقيم في اللغة هو أقصر خط بين نقطتين، فالخط المستقيم يعني أنه ليس منحنياً، ولذلك تجد الطرق التي تربط بين البلاد تكون فيما بين. للبلدين طريقان، طريق بعيد وطريق قريب. الطريق القريب يكون
مستقيماً، والطريق البعيد يكون منحنياً. الطريق الدائري عندما تركبه تجد نفسك تنتقل من نقطة إلى نقطة بعشرين كيلومتراً على الفور، بينما لو نزلت في الشوارع فستصل إليها بثلاثين كيلومتراً، لكنها ثلاثة كيلومترات فقط. لماذا هذا؟ لأنه منحنى دائري جزء من... دائرته وهذا مستقيم هكذا باستمرار، فيكون الصراط المستقيم سيصل بنا إلى الله سبحانه وتعالى من أقرب طريق، وحينما يكون من أقرب طريق، يتميز بماذا؟ أقرب طريق هذا عندما تكون أنت ذاهباً إلى شيء من أقرب طريق: توفير الزمن لأنه أقرب طريق ستقطعه في زمن قليل،
توفير الجهد لأنك عندما ستمشي نصف ساعة بدلاً من أن تمشي يوماً أو يومين أو ثلاثة، فإننا نكون قد وفرنا الزمن ووفرنا الجهد. حسناً، ما هي قصة الزمن والجهد هذه؟ المستقيم هنا معناه توفير الزمن وتوفير الجهد. الزمن شيء مهم جداً لدرجة أن الشافعي يقول: "خالطت الصوفية فاستفدت منهم الزمن كالسيف، إن لم وصلت همة سيدنا عمر إلى أن يحاسب نفسه بالأنفاس؛ النفس يدخل لا يأمل أن يخرج، ويخرج لا يأمل
أن يدخل. كان منتبهاً لنفسه بالأنفاس. فالزمن إذا ضاع لا نستطيع إرجاعه مرة أخرى، وهذه عملية صعبة جداً أن تضيع منا أيامنا وتضيع منا حياتنا. "اهدنا الصراط المستقيم" تعني: يا رب لا عمرنا وبعد ذلك نستيقظ بعد الخمسين وبعد الستين بعد التقاعد وقرب الوفاة ونقول يا ليت ما حدث كان مختلفاً، وأننا لم نفرط في جنب الله سبحانه وتعالى. اهدنا الصراط المستقيم، أي يا رب حافظ على أوقاتنا، فالأوقات هي دماء هذه الحياة. فتخيل أن هذا الدم ينزف، فماذا تكون الحياة؟
تموت، اثنان ما سبقكم أبو بكر بكثرة صلاة ولا صيام ولكن بشيء استقر في قلبه، يعني المسألة ليست بكثرة الصلاة وبكثرة الصيام، ثم إنك في قلبك لا توجد همة ولا استقامة ولا رضا، وهو مملوء بالقبيح من الخيانة ومن ضياع الأمانة مع الله سبحانه وتعالى، لا ينبغي علينا أن نقف. عِندَ الصراطِ المستقيمِ وَقَفاتٌ حتى نَرى كَيفَ نَدعو اللهَ سبحانَهُ وتعالى بأنْ يُبقيَ علينا أزمانَنا وهيَ تَجري، ويُبقيَ علينا أعمالَنا، ولا يُكَثِّرَ علينا الطريقَ. وإلى لقاءٍ آخَر، نَستَودِعُكُمُ اللهَ، والسلامُ عليكم ورحمةُ
الله.