سورة الفاتحة | حـ 21 | آية 6 | تفسير القرآن الكريم | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله نعيش هذه اللحظات مع الفاتحة ومع قوله تعالى "اهدنا الصراط المستقيم"، والصراط هو الطريق، وطريق الله مليء باللافتات. الطريق إلى الله مليء بما يلفت الإنسان، مليء بالشهوات، مليء مثلما تسير في... الطريق فترى المحلات والمعروضات، فقال أهل الله وهم سائرون: والطريق إلى
الله مليء بهذه المفاتن والشهوات، فالملتفت لا يصل. المقصود بالهداية في طريق الله أن نسير في طريق الله سبحانه وتعالى وألا نلتفت يميناً ولا يساراً فيما يشغلنا عن الله. لا بد علينا أن نخلي قلوبنا مما سوى الله، وهنا. يقع كثير من الناس في ورطة، يقع كثير من الناس في حيرة، أنترك الدنيا أو لا نترك الدنيا؟ ونحن نقول لهم: لا تتركوا الدنيا. قال: كيف لا أترك الدنيا ثم بعد ذلك تقول: إياك أن تُفتتن بالدنيا؟ يعني ما معنى
هذا الكلام؟ دعاء الصالحين: اللهم اجعل الدنيا في أيدينا ولا تجعلها في قلوبنا قضية مهمة لا بد أن تُحسم ولابد أن تكون واضحة عند الناس أن الاعتماد على أسباب الدنيا شرك وأن ترك أسباب الدنيا جهل نهت عنه الشريعة الغراء. كيف لا أعتمد عليها وكيف لا أتركها؟ القلب قلبك لا يتعلق بها ولا يعتمد عليها ولا يتوكل عليها إنما يتوكل على خالقها وهو الله ولا يتركها أبداً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج في أُحد خرج وقد خالف بين درعين، أخذ
الأسباب. فلا بد علينا من الأخذ بالأسباب، فترك الأسباب ليس من سنة الأنبياء. وسيدنا عمر يقول: إن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة، ولكن بعد ما نسعى في الأرض ونمتلك الذهب والفضة من حِلِّه من الطريق الحلال وننفقها في الحلال لا يتعلق قلبنا بها. قال: طيب وكيف يتعلق قلبنا بها؟ قال: لا يفرح بالموجود ولا يحزن على المفقود. لا تفرح بالموجود عندما تحصل عليه، تقول: الحمد لله، هذا رزق من عند الله، وعندما يخرج منك ويذهب تقول. الحمد لله، الله أعطى والله أخذ والله عليه العوض. انظر إلى الكلام، لا
يوجد حزن في الاستمرار في العمل. افتقدت شيئاً من الدنيا فعملت. كلما فشلت في شيء، حاولت مرة أخرى ولا يهمك. إياك أن تيأس فإن اليأس ليس من صفات المؤمنين. أيكون هذا إنسان محب للحياة أم كاره لها؟ هذا إنسان. محب للحياة لكنه يعلم حقيقتها وأنها إلى زوال، ويعلم حقيقتها وأنها من عند الله، ويعلم حقيقتها وأن الله سبحانه وتعالى قد رسم فيها سعادة الدارين، وعلى ذلك فيجب عليه أن يستقيم فيها على الصراط المستقيم (اهدنا الصراط المستقيم)، بأن لا يحزن على المفقود ولا يفرح بالموجود، ويجعل الدنيا في يده. ولا يجعلها في قلبه ولا يعتمد على الأسباب ولا يتركها.
كثير من الناس يحتار في هذا، يريد أن يتطرف، إما أن يكون من أهل الدنيا فيفعل الحرام والحلال من أجل أن يحصلها، وإما أن ينعزل عنها بدعوى التقوى. كثير من الناس هكذا، ولذلك كانت لسيدنا عمر عبارة وهو. التقي القوي سيدنا عمر كان تقياً وكان قوياً، يقول: "اللهم إني أشكو إليك عجز التقي"، الذي داخل في التقوى عاجز، غير راضٍ أن يخالط الحياة ولا راضٍ أن يقف فيها موقفاً جاداً، وفجور القوي، فعندما أذهب للبحث
عن القوي أجده فاجراً. الإسلام أمرنا بغير ذلك، فكيف أكون قوياً تقياً؟ بالتربية. بمناهج التعليم، بالإعلام والرأي العام، بالأسرة وبقائها واستقرارها، برسالة المسجد، لا بدّ علينا أن نعود مرة أخرى إلى هدى الصراط المستقيم، أن نعود مرة أخرى إلى تحويل مناهج تعليمنا، إلى إعلامنا، إلى أسرتنا، إلى وظائف مؤسساتنا. لا بدّ علينا أن نحولها إلى عمل يعيش فيه المواطن الصالح وإنسان الحضارة الذي إرادة الله سبحانه وتعالى الذي علمنا في الفاتحة
أن نقول "اهدنا" بالجمع "الصراط المستقيم". فالصراط المستقيم لا يأتي بالأماني ولا بالاقتناع ولا بأن نظل نقول هكذا "هو اهدنا الصراط المستقيم" ومعناها ومعناه، بل يأتي ببرامج العمل في كل مجال. "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون". هيا بنا نعم. لا بُدَّ مِنْ زِيَادَةِ الإِنْتَاجِ. اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ. لا بُدَّ مِنَ الدُّخُولِ فِي مَرْحَلَةِ الإِنْتَاجِ الْوَفِيرِ. إِذَا لَمْ يَكُنْ أَكْلُكَ وَطَعَامُكَ مِنْ فَأْسِكَ فَرَأْيُكَ لَيْسَ مِنْ رَأْسِكَ. هَذَا قَالُوهُ قَدِيمًا: عِنْدَمَا يَكُونُ طَعَامُكَ مِنْ فَأْسِكَ يَكُونُ رَأْيُكَ مِنْ رَأْسِكَ،
وَعِنْدَمَا لا يَكُونُ، خَلَاصٌ يَتَلَاعَبُ بِكَ النَّاسُ. إِذًا "اهْدِنَا" بِالْجَمْعِ وَالصِّرَاطَ. أي الطريق وطريق الله ملتفت فيه لا يصيب، ملتفت لا يصيب، مرتبطة بكلمة ثانية يقول: "الله مقصود الكل"، يقولون هكذا: "الله مقصود الكل"، يعني ينبغي عليك أن تجعل الله مقصودك في الطريق إليه، فأنت تمشي فيه هكذا، أنت لا ترى الله، تمشي لماذا؟ قال: لكي أمشي إلى الله. لا يصح أن زُيّن للناس حب الشهوات أن تلتفت يميناً إلى الشهوة الفلانية وتلتفت شمالاً،
تلتفت يميناً وتقف عند المحل الفلاني، تدخله، تشتري وتبيع مثلاً يعني في طريق الله. لا، إذا فعلت ذلك فلن تصل إن شاء الله حتى يفنى عمرك، والزمن ليس باقياً، الزمن عَرَض غير قار، غير قار. ماذا يعني أنه غير مستقر؟ إنه ليس شيئًا يُمسك كما أُمسك بالكتاب الكريم هكذا أبدًا. إنه عَرَض غير قار. تمضي الأمور، فتنام وتستيقظ لتجد الساعة قد تغيرت. تأكل وتشرب لتجد الدنيا قد تبدلت، فبعدما كانت نهارًا أصبحت ليلًا، ومن الليل أصبحت نهارًا. الدنيا تجري ولن تنتظرك، ولذلك قال أهل الله لا بد عليك. من القيام بواجب الوقت وأن لكل وقت واجبه.
كل وقت العامة يقولون ماذا؟ كل وقت وله اهتمام، كل وقت وله واجب. فالواجب الخاص بي اليوم يجب أن أؤديه، لماذا؟ لأنني إذا وصلت إلى واجب الغد فسأقوم بعمله أيضاً. كيف؟ لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد لأن الغد فيه عمل هو الآخر مشغول به. بِهِ غداً، هذا هو عَرْضُ قرار، هو الثاني غداً. أما أننا منشغلون به، فأنت ستؤجل عمل اليوم إلى الغد. حسناً، ولكن العمل الذي في الغد إلى أين ستؤجله؟ إذن لا يصح. علينا أن نقف هنا ونقول: "اهدنا" هي هداية توفيق وهداية دلالة وفهم وهداية مكان، وأنها بالجمع وليست بالمفرد، وأنها نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا في الطريق إليه،
وطريقه ملتفت فيه لا يصل، والله مقصود الكل، وأن يجب علينا ألا نعتمد على الأسباب وألا نتركها، وأن نجعل الدنيا في أيدينا ولا نجعلها في قلوبنا، وأن نراعي أوقاتنا وأزماننا، وأن نراعي أعمالنا، وأن الأمر ليس بكثرة العمل إنما بشيء قد. وقر في القلب وإلى لقاء آخر، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.