سورة الفاتحة | حـ 22 | آية 6 | تفسير القرآن الكريم | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله نعيش هذه اللحظات مع الفاتحة الأساس الكافية الشافية، الركن الذي جعله الله سبحانه وتعالى ركناً في صلاة المسلمين. يتلوها المسلم وتتلوها المسلمة، يتلوها الكبير والصغير كل يوم سبع عشرة مرة يتأكد. منها المؤمن من منهاج حياته مع آخر آية وهي الآية السابعة، ولذلك بعضهم سمى الفاتحة بالسبع المثاني لأنها تكرر وتثنى في كل صلاة: ﴿صراط الذين أنعمت عليهم غير
المغضوب عليهم ولا الضالين﴾. صراط الذين أنعمت عليهم، هنا انظروا إلى الجمال: نحن نسأل الله الهداية لكننا لسنا منفصلين عن التجربة البشرية. التي أرادها الله لهذا الكون، أرسل الله آدم وأرسل بعده الرسل وفضَّل بعضهم على بعض وختمهم بسيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم، أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتدوا، يعني اتبعوا هداهم، فقد كان
لكم في قصصهم عبرة، فلا بد عليكم أن تتخذوا هذه القصص عبرة، هؤلاء عليهم الصلاة. والسلام، أنعم الله عليهم بماذا؟ بالفهم، لأن الوحي عندما ينزل على النبي ينقله إلى مرتبة اليقين، واليقين تزول منه الحيرة والشك والوهن والظن، وتصبح المسائل أمامه رأي العين، ويصل إلى علم اليقين وعين اليقين، فليس مترددًا ولا متشككًا بعد الوحي، وتجري على يده المعجزات، ويستجاب
له الدعاء، ولذلك فقد أنعم. الله عليه، فاللهم أنعم علينا بنعمة الفهم، واللهم أنعم علينا بنعمة اليقين، واللهم أنعم علينا بنعمة الهداية، واللهم أنعم علينا باستجابة الدعاء. استجابة الدعاء تُنشئ صلةً بين العبد وربه، ويرى المؤمن ربه في الدنيا، فهو يقول: يا رب، فيستجيب له، وبعد ذلك يأتي أحدهم ليقول له: لا يوجد ربنا. يضحك عليه، فهو يعني لا يستطيع استيعاب كلامه، كلام فاضل يقول له: "إنني لا أعرف لماذا يفعل الله هكذا" عندما تصيبه مصيبة أو نحو ذلك. فيضحك قائلاً: "الحمد لله الذي عافاني مما ابتلى به كثيراً من عباده". هذا حجاب على
قلب هذا المتكلم، لم يرَ الله ليقول له. طيب وأنت الذي رأيته، يقول له: نعم، وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد. نعم رأيته. نعم رأيته بعينك يعني؟ قال له: لا، "لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار". لا، لم أره بعيني، إنما رأيته طوال النهار والليل في حياتي. أدعو فيستجيب لي، فأنا أقول: يا رب اجعلني. مثل هؤلاء الناس الذين في صلة بيني وبينك دائماً، بينهم وبينك، الذين أنت هديتهم والذين أمرتنا أن نقتدي بهداهم، فارضَ عني وانقلني من دائرة سخطك إلى دائرة رضاك، واجعلني محلاً لنظرك، واستجب دعائي، وأنعم عليّ حتى أكون مثلهم في اليقين ومثلهم في الهدى
ومثلهم في الهداية ومثلهم في الطريق إليه، فمن هو الذي أنعم الله عليه؟ انظر إلى الكلام، لم يقل ذلك. وهذا يظهر في الترجمة عندما يأتي بعض الناس ليترجموا، فتجدها تترجم بما في عقلها وليس بالقرآن، بل بما في عقلها هي. لكن ما رأيك أن الذين يترجمون هؤلاء يُظهرون إعجاز القرآن لأن ربنا لم يقل. هكذا يقول: "صراط الأنبياء". ربنا قال "صراط الذين أنعمت عليهم" ولم يقل "صراط الأنبياء". وهذان متماثلان، ففي التفسير يقال لك إن "أنعمت عليهم" هم الأنبياء. نعم، هذا رأي مفسر، وهي طائفة ممن أنعم الله عليهم. فإذا كان "أنعمت عليهم" أنبياء أو غير أنبياء، فهل يعني ذلك أن
ربنا لن يستجيب عندما كان يقول صراط الأنبياء ويكون معناها رب اهدني مثلما هديته، حسناً هو موحى إليه وأنت لست موحى إليك. لا، لم يقل الأنبياء فقط. حسناً، الصالحين؟ الصالحين فقط أم الصالحين والصديقين والأنبياء والشهداء والناس الطيبة والناس التي تعمر الكون والناس الذين أنعمت عليهم؟ ما رأيك الآن في كلمة "أنعمت"؟ عليهم وأي كلمة أخرى، فلتحذفها هكذا، وخط أي كلمة أخرى ابتداءً من الأنبياء وانتهاءً بالناس الطيبين لا تصلح، لا تصلح "أنعمت عليه"، "صراط الذين
أنعمت عليهم" فتكون هذه واسعة، وهكذا كلام الله كله ما كان لبشر أن يستطيع أن يفعل هذا، كلام ليس في مقدور البشر أن واحد. لا يخطر في أذهان البشر أنك كلما تشاهد الآيات تستنبط منها معنى جديداً لم يره أحد قبلك، ما هذا! ويكون هذا القرآن لا تنتهي عجائبه ولا يَخلَق من كثرة الرد، ولا يفهم الناس ما علاقة المسلم بكتاب الله. أنتم متمسكون بأول آية هكذا لأنه معجزة، في ذاته. لا تنتهي عجائبه، اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم. هذه الآية تقف أمامها هكذا وتتأمل وتتدبر وتتلذذ وتقول: الله، هذا شيء
جميل جداً. وبعد ذلك قال لك: غير المغضوب عليهم. انظر إلى هذا الكلام، يا رب لا تجعلني ممن يعلم الحق ومع علمي بالحق أحيد عنه فأكون ممن غضب ولا تجعلني يا رب لا أعلم الحق فأكون من الضالين التائهين الحائرين في هذه الحياة الدنيا. انظر وتأمل في جمال القرآن، فقد نزل للعالمين، نزل يخاطب الناس أجمعين، والناس ليسوا على قلب رجل واحد ولا إنسان واحد. من هم المغضوب
عليهم ومن هم الضالون؟ هم كما جاء في التفسير: المغضوب والضالين النصارى، الله هو ربنا قال هكذا، قال المغضوب عليهم اليهود والضالين النصارى. فيأتي ويُحضر الترجمة ويقول له: تعالَ أنت ماذا؟ فيقول: أنا يهودي. فيقول له: انظر كيف يشتمكم المسلمون، ها هو تفسير "غير المغضوب عليهم" في الفاتحة التي يقرؤونها كل صباح، يقولون إن اليهود سيئون. انظر ماذا يقولون عنك، نفسه عن الإسلام قوم يقولون: "إذا كان هؤلاء يشتموننا في صلاتهم، فهذا يعني أنهم يستحقون أن يدمرهم الله بالقنبلة الذرية". يا أخي، لا. انظر إلى الآيات التي يدعو بها المسلم، وانظر كيف هي منزهة عن أن تتحدث عن هذا وذاك. إن المسلم يطلب الهداية لنفسه ولأمته وللبشر
جميعًا. أجمعين غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فيها عشرة أقوال للمفسرين. كل أقوال المفسرين عندما تقارنها بالكلام تجد الكلام أوسع وأحلى وأجمل. أيعقل أن يكون هذا من عند بشر؟ "غير المغضوب عليهم"، قل لي هكذا: هل يوجد أحد في البشرية كلها قالوا له تعال، ما رأيك في هذه الفاتحة، هل تستطيع البشر يقولونها، كل البشر يقولونها، لا توجد حواجز. حسناً، أنت ذكرت اليهود وذكرت النصارى، ماذا عن بقية أمم الله؟ هناك خمسة آلاف دين في الأرض، لكنني أخاطب الإنسان كإنسان، أمد له يدي وأقول له: تعال فكر معي. نحن لا نريد أن نعرف الحق أبداً،
أي حق، ونحيد عنه. هل تتفق على هذا أم لا: "تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله". انظر إلى هذا الكلام، تعالوا نتفق. هل تحب أن تكون من الضالين؟ أبداً، لا يوجد أحد في الأرض يقول: "نعم، أنا أحب أن أكون من الضالين"، إلا إذا كان في عقله شيء. لكن كل الناس يقولون: نحن نريد الشفافية، نريد الصدق، نريد حقوق الإنسان، نريد الحق. حسناً، نحن نريد ذلك أيضاً. إلا أنكم في كتابكم تشتمون الناس. أين؟ أين في كتابنا نشتم الناس؟ وهذا هو الذي جعل القرآن الذي باللغة العربية المعجز الذي لا تنتهي عجائبه، الذي هو الأصل، جعله مرجعاً. فعندما واحد... يخطئ في ترجمة فنقول له إن الأصل ليس هكذا، بل المترجم هو الذي قال هكذا. وعندما
يخطئ أحدهم في التفسير أقول إن الأصل ليس هكذا، بل المفسر هو الذي قال هكذا. وأخطاء هؤلاء المترجمين والمفسرين نتجت من ماذا؟ نتجت من إعجاز القرآن. أما أنت يا أخي فلا تعرف أن تقول ولا الضالين، ولا أحد يستطيع أن يرفض هذا. لم تفرق هذه الفاتحة بين الغني والفقير، ولا بين الحاكم والمحكوم، ولا بين الذكر والأنثى، ولا بين المسلم وغير المسلم، ودعت الجميع: تعالوا إلى كلمة سواء، هيا تعالوا نجتمع هكذا وندعو الله سبحانه وتعالى. ما رأيك أن هذه الفاتحة تدل على عالمية الإسلام ويدل على أنه من عند الله ويدل على منهج واضح يجب على الدعاة أن يسيروا عليه. وإلى لقاء
آخر، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله.