سورة المائدة | حـ 845 | 1 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

سورة المائدة | حـ 845 | 1 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة - تفسير, سورة المائدة
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة المائدة يقول ربنا سبحانه وتعالى في أولها: بسم الله الرحمن الرحيم، يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود وحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم. حرم إن الله يحكم ما يريد، بداية قوية كشأن القرآن كله، وترسم للإنسان منهج حياته وتبين له أخلاقه مع نفسه ومع إخوانه ومع العالمين
ومع رب العالمين سبحانه وتعالى. يخاطب فيها ربنا سبحانه وتعالى المؤمنين، فهي خصلة وصفة وأمر في الحقيقة أنه متعلق بجماعة المؤمنين في مقابلة العالمين. هناك خطابان. يا أيها الناس فالأمر فيه يرتكز على البشرية جمعاء وأنه يشتمل على خير لهم جميعاً. يا أيها المؤمنون خاص بالمؤمنين في مقابلة العالمين، فلا بد عندما
يقول "يا أيها المؤمنون" أن نرى ما الذي بعده. فهنا يقول "يا أيها الذين آمنوا" يعني "يا أيها المؤمنون" ولكن ما الفرق بين "يا المؤمنون ويا أيها الذين آمنوا يا أيها المؤمنون خطاب للمؤمنين مباشرة، الذين آمنوا خطاب لهم يذكرهم بسبب الخطاب، يعني يقول لهم: أنا أخاطبكم الآن بصفتكم أنكم قد آمنتم، وهذا الذي فعلتموه من الإيمان قد شغل ذمتكم بالأمور التالية، يعني
أنت مؤمن، قال له: نعم أنا مؤمن، فقال له: إذاً لا... بد عليك ولأنك مؤمن أن تفعل كذا وكذا يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود، إذ الوفاء بالعقد من صفات المؤمنين. لا بد عليك حتى تكون مؤمناً صادقاً محرراً لإيمانك أن تفي بالعقد، وهذا معناه أن عدم الوفاء بالعقد هو في حقيقة الأمر نوع من أنواع الخروج عن الإيمان درجة ولو خطوة
ولو انتقال من دائرة تمام الإيمان إلى دائرة نقصان الإيمان، يعني عندما لا تفي بالعقود فقد انتقص من إيمانك. إذاً فالوفاء بالعقود قضية مهمة تتعلق بالدعوة إلى الله، لأن الدعوة إلى الله قد تكون بالمقال باللسان وقد تكون بالحال، والدعوة إلى الله بالحال أدوم وأعمق وأبقى من الدعوة باللسان تعني أن تعرّف من أمامك بالدعوة، لكن الدعوة بالحال تجعل الآخر ينبهر
بك ويسأل ويتساءل مع نفسه عن دينك: ما هذا الدين الذي جعلك صادقاً وفياً؟ عندما تكون غير صادق فأنت كاذب، وعندما تكون غير وفي فأنت خائن. "أوفوا بالعقود"، ولذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم عدم من علامات النفاق ذُكِرَ أن علامات النفاق ثلاثة: إذا حدَّثَ كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا عاهد غدر. وفي رواية: علامة
أو آية المنافق أربعة وليست ثلاثة، أضاف إلى الثلاثة التي ذكرناها: "وإذا خاصم فجر". قالوا هذا هو النفاق العملي، أما النفاق العقدي فهو أن تُبطن أنك غير مؤمن بالله وتُظهر باللهِ، هذا عبارة عن نفاقٍ في العقيدة فقط، لكن هذه الأربعة هي للنفاق العملي. أنت في أي دائرة؟ في دائرة المؤمنين وصفات المؤمنين، أم مِن الداخل مؤمن وكل شيء ولكنك تفعل أعمال المنافقين؟ هذا هو النفاق العملي: إذا حدَّث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم
فجر. أوفوا بالعقود، ولذلك أخذ العلماء من هذا العقد شريعة المتعاقدين، العقد شريعة المتعاقدين. يعني أن العقد قد ألزمك وألزم ذمتك كما ألزمت الشريعة ذمتك، ما دام العقد ليس فيه معصية. يعني شخص عمل عقداً مع آخر على أن يقتله، هذا لا يصح، إنه عقد باطل لأن موضوعه هو القتل، أتعلمون قديماً كانوا يستأجرون وحتى الآن
يستأجرون للقتل، أليس هذا حراماً؟ هذا ليس عقداً أصلاً، بل هو اتفاق سيئ. فالعقد لا بد أن يكون في نطاق الحلال، إذا قد ألزمت نفسك مثلما يلزمك الشرع. هل الإنسان يلزم نفسه؟ ربنا سبحانه وتعالى أنزل دائرة من الأفعال أوجبها علينا أو حرمها علينا. ما هو ترك المحرمات واجب، حرّم علينا السرقة والرشوة والقتل والزنا والربا وهكذا، وأوجب علينا الصلاة والزكاة والحج والصيام وهكذا، وترك لنا مساحة
فيها إباحة. مباح يعني مساحة الإباحة واسعة كبيرة جداً، فكيف يتحول المباح إلى واجب؟ أول شيء يتحول به المباح إلى واجب النذر، شخص يقول نذرت لله أن... اذبح خروفاً أو أن أتصدق بصدقة أو أن أعطي قرضاً لفلان، فهذه أمور مباحة. ذبح الخروف هذا مباح وليس واجباً، وإخراج الصدقة للفقراء أيضاً مباح، وكذلك أن تعطي قرضاً للشخص فهو أيضاً مباح. فأول شيء يحول لك الأمر من الإباحة ويجعله واجباً عليك هو النذر،
والشيء الثاني هو العقد. هَا أَوْفُوا بِالعُقُودِ، العَقْدُ شَرِيعَةُ المُتَعَاقِدِينَ، فَيُصْبِحُ الَّذِي كَانَ فِي المُبَاحِ وَاجِبًا عَلَيْكَ بِالعَقْدِ الَّذِي وَقَّعْتَهُ وَالْتَزَمْتَ بِهِ، وَاللَّهُ قَالَ: "أَوْفُوا بِالعُقُودِ"، وَأَمَرَنَا اللَّهُ أَيْضًا بِأَنْ نُوفِي، وَالنَّاسُ يُوفُونَنَا بِالنَّذْرِ. إِذًا، ثَانِي شَيْءٍ هُوَ العَقْدُ، وَثَالِثُ شَيْءٍ يُقَالُ لَكَ: أَمْرُ الحَاكِمِ، أَمْرُ الحَاكِمِ أَنَّكَ لَا تَقِفُ هُنَا، أَنَّكَ... عندما تكون الإشارة حمراء توقف، وعندما تكون خضراء امشِ، هذا نظام. حسناً، هذا مباح، لكن قد ينتقل من الإباحة إلى الوجوب لأنه وُضع لتنظيم حياة الناس للمعيشة والمعاش. وهكذا توجد أشياء
تنتقل من الإباحة إلى ماذا؟ إلى الوجوب. وإلى لقاء آخر، أستودعكم الله والسلام عليكم. ورحمة الله وبركاته