سورة المائدة | حـ 846 | 1 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

سورة المائدة | حـ 846 | 1 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة - تفسير, سورة المائدة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة المائدة يقول ربنا سبحانه وتعالى في أولها: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ﴾. ما يريد، يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود. نصّ العلماء على أن العقد له مراحل، وأولها التهيئة.
مرحلة التهيئة: نهيئ من أجل أن نعقد عقد بيع أو شراء، أو نعقد عقد سلم أو استصناع أو مقاولة أو عقد زواج، له تهيئة. فهل التهيئة من العقد أم التهيئة خارج العقد؟ أجمعوا... على أن التهيئة خارج العقد، لأن هناك أناسًا لا يفهمون ويظنون أن التهيئة للعقد هي عقد، فيترتب على ذلك فساد عظيم. التهيئة للعقد ليست عقدًا، هي مُعدة
لكي نرى إن كنا سنعقد أم لا. التهيئة للعقد تعني أننا نفكر كم ستعطيني طن القمح، ففكرنا وستعطيني طن القمح بألف، وإذا بالأسعار مائة فتكون التهيئة التي قمنا بها هذه من العقد ويأتي ليلزمني أن أشتري منه بألف لأننا كنا نتداول ونتفاوض ونهيئ، لكن السوق أمامي أصبح بسبع مائة. حسناً، افترض أنني اشتريت منه بالألف، أنا مشترٍ طن القمح لأخبزه وأبيعه، سأغلي على الناس
هكذا، ولن يأتي أحد ليشتري مني لأن... الأفران الأخرى ستبيع بتسعمائة وأنا سأبيع بألف ومائتين لكي أكسب. انظر إلى الفساد الكبير. يعني لو وافقت سيُخيّر البيت. فتكون تهيئة العقد ليست من العقد. الخطبة (عندما) يذهب ليخطب فتاة، هذه الخطبة تهيئة للعقد وليست من العقد. ولذلك يحق لكل من الطرفين أن يتراجع. أنا لست مكملاً بدلاً من أن ويُنجِبون ويُطلِّقون، فتكون هذه تهيئة من أجل الخير وليس
من أجل الشر. هذه التهيئة تخيل أنها عقد، فبعض الناس يظن أنها عقد، والفتاة تظن أنها عقد، فتترك نفسها لخطيبها، ويترتب على ذلك من المفاسد ما الله به عليم. هذا لا يصح، فهو حرام، لأن تهيئة العقد ليست من... العقد لا يجعل المجرم يأتي ويقول لها: نحن لسنا مخطوبين، نعم مخطوبين، حسناً، أوفوا بالعقود يا أيها الذين آمنوا، أوفوا بالعقود. لا يصح أن يتلاعب بدين الله. أوفوا بالعقود عندما تُعقد، وليس أوفوا بالعقود عندما نهيئ لها ثانية. يأتيني شخص
ويقول لي: الشاب فسخ الخطوبة وذهب، والشبكة من حق... مَن أقول له إن الدُخلة من حقه لأن الشبكة هي جزء من المهر، والمهر أمر يترتب بالعقد، وبعد العقد لو طلَّق قبل الدخول فلها النصف، ولو طلَّق بعد الدخول فلها كل حقوقها. حسناً، إذا لم يُعقد العقد، فكيف ستأخذ الشبكة؟ هذا غير ممكن لأن هذه الشبكة ليست موجودة. موجب لها أن يقول لي، لكن هذه الفتاة قد حزنت كثيراً، وهذا وارد، فهي إنسان ولا مانع من أن تحزن،
لكن هذا الحزن أخف من حزن غيرها لو أنها تزوجته وهي فتاة من أسرة ثم حطمت هذه الأسرة. فعلينا أن نقول: من الأفضل أن نترك بعضنا ونحن على البر، وليس جاء الأمر بالوفاء بالعقود وليس بتهيئة العقود، ولذلك أجمع العلماء على أن الوعد غير ملزم، الوعد غير ملزم إلا الإمام مالك قال هو ملزم إذا كان الأمر يتعلق بعقود مالية يترتب عليها ضرر، ولا ضرر ولا ضرار. قلنا له: مثل ماذا يا سيدنا الإمام؟
قال: مثل أنني مررت على شخص. قلت له: "ما هذا؟ ما هذا البيت الذي تسكن فيه؟ إنه لا يليق بك". فقال لي: "والله، على قدر الغطاء أمدّ رجلي، ليس لدي المال". قلت له: "لا، لا تقلق، غداً سأحضر لك المال الذي تبني به هذا البيت. الجو جميل وطيب، وقطعة الأرض جميلة وجيدة، والموقع جميل، لكن هو..." البيت هكذا شكله ليس جيداً. صدّق الرجل وذهب فهدد البيت وجاء إليه قائلاً: "أعطني النقود الآن لأبني". قلت له: "لا، الوعد غير ملزم، بيني وبينك عقد". هذا هو يا توبة، قلت لك أنا سأكون يعني وعد. فالإمام مالك والأئمة الثلاثة يقولون له هذا، وأخونا
الذي هدم البيت هذا. مخطئ لأنه كان يجب عليه أن يأخذ النقود أولاً بيده قبل الهدم. الإمام مالك قال: "لا، إنني أحكم عليه بأنه يجب أن يدفع النقود لأنه غرر بالرجل حتى هدم بيته، فيجب عليه البناء". هذه هي القضية. أما شخص وعد شخصاً آخر ثم تغيرت الظروف وأصبح الوعد مستحيلاً أو صعباً أو وبعد ذلك تقول لي "أوفوا بالعقود"، لا، فلا يوجد عقد أصلاً لكي أوفي به. فتنبه أن هناك فرقًا بين الوعد غير الملزم الذي يتغير بتغير الدنيا والأحوال
والأشخاص والزمان والمكان، وبين العقود الملزمة التي حتى لو ترتب ضرر على الوفاء بها، فلا بد علينا من الوفاء بها حتى لا يكون بين الناس شيء خارج العقل وخارج الشرع وخارج الأخلاق لأن الخلط بين تهيئة العقل وبين العقل يترتب عليه فساد كثير، والنفوس تحمل وتتحمل كثيراً من الناس، والظلم يحدث بين الناس من أجل هذا. الشرع احترم فينا حرية الإرادة واحترم فينا أن نتمتع بالمباح واحترم
فينا أن نحول المباحة إلى. واجب علينا بالنذر أو بالعقد أو بحكم حاكم أو برأي والٍ وهكذا أمور تجعل المباح ينتقل من الإباحة إلى الوجوب، ولكن إذا كان الأمر ما زال في دائرة المباح فليس لأحد أن يظلم أحداً، وليس لأحد أن يواجه الآخر بهذه الآية "يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود" وإلا يكون قد... استعمل شيئًا في كتاب الله في غير ما نزل فيه واستعمال شيء من كتاب الله في غير ما نزل فيه هو سبب التطرف وهو سبب الفساد. أخرج البخاري عن
ابن عمر رضي الله تعالى عنه في شأن الخوارج قال: "ذهبوا إلى آيات أنزلها الله في المشركين فجعلوها في المؤمنين". وضع الشيء في غير ما نزل فيه. الخوارج متشددون جداً، والخوارج يدعون أنهم أهل الحق وهم أهل الباطل. والسبب ماذا؟ سوء الاستدلال. كيف ساء الاستدلال؟ أنزل الله آيات في المشركين، فإذا بهم يحملونها على المؤمنين ويصورون أننا من المشركين. نحن مؤمنون ولسنا مشركين. فساد عريض في سوء الاستدلال والله. تعالى أعلى وأعلم، وإلى لقاء آخر، نستودعكم الله، والسلام
عليكم ورحمة الله وبركاته.
    سورة المائدة | حـ 846 | 1 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة | نور الدين والدنيا