سورة المائدة | حـ 852 | 1 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه مع كتاب الله وفي سورة المائدة قال تعالى بسم الله الرحمن الرحيم يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود يعني لمصلحتكم ولمصلحة البشرية وحتى يكون الوفاء بالعقود عنوانًا على المؤمنين في مقابلة العالمين فإذا حلّ المسلم في مكان وفيّ بالعقود وفي ذلك رد على أولئك الذين عاشوا فعاثوا في الأرض فساداً في بلاد غير المسلمين وهم
من المسلمين في ظاهر الأمر ولم يوفوا بالعقود فكانوا مثالاً سيئاً للمسلمين لأنهم خالفوا ربهم وخالفوا أمره وتكليفه. قال تعالى: "أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ" وبهيمة الأنعام معناها الحيوان ولكن هذا الحيوان بالمعنى الواسع يدخل فيه أنواع حرمها علينا الشرع، فحرم علينا الحمار الأهلي،
وحرم علينا ذا الناب الذي له ناب من السباع، وحرم علينا ذا المخلب الذي له مخالب، وحرم علينا أشياء مثل هذا، لكنه سبحانه وتعالى بين لنا بياناً شافياً في هذه المحرمات فقال: إلا ما تلاه. علينا ومن هذا الحل الواسع
استدل الإمام الشافعي أن كل ما لم تستقذره العرب فهو حلال وكل ما استقذرته العرب فهو حرام. سيدنا الإمام الشافعي عنده قاعدة هكذا: كل ما استقذرته العرب يعني قالت ما هذا؟ أنا متقزز منه، يكون حراماً، وكل ما لم تستقذره العرب يكون حلالاً. قالوا له... ولكن يا فضيلة الإمام، أعطنا مثالاً لشيء استقذرته العرب. قال: الفيل، استقذرت العرب الفيل.
حيوان نباتي يأكل النباتات، وخرطومه هذا لا يأكل به، ولا يفترس به، ليس مثل الأسد والنمر والفهد، فهذه حيوانات مفترسة تأكل اللحوم ولها مخالب، لكن الفيل مسكين ليس له مخالب، وحتى نابيه الكبيرين هذين لا يستعملهم، يعني حتى أنهم في الحقيقة معوجون. يعني عندما تجد أن نابي الفيل معوجان إلى الأعلى وليس إلى الأسفل، فهذا يعني أنه لا يستطيع الأكل بهما، ولا يستطيع الضغط بهما، ولا
يستطيع الإمساك بهما. إنها مجرد أشياء يستند بها فقط. حسناً، سألوا: "ما الذي يميز هذا الفيل؟" قالوا: "العياذ..." والله عندما تشقه تجده كله مواد هلامية هكذا، فالعرب لما وجدته كذلك ليس فيه لحم، يعني فيه أنسجة بسيطة فقط وكله هلام، فاشمأزت منه واستقذرته العرب، فهو حرام. لكن العرب لم تستقذر الأرنب مثلاً فهو حلال، وأُكِل الأرنب أمام النبي فلم ينه عنه. قالوا له: حسناً ولكن هناك أشكال. ثانياً، الأشكال
الأول: أن تعرف ما الذي استقذرته العرب وما الذي لم تستقذره. والإشكال الثاني: قالوا له افترض أن العرب لم تعرف هذا الشيء، فهل هو حلال أم حرام؟ انظر إلى البحث، يعني أنهم أجروا أبحاثاً في الحيوان لخدمة الفقه، وليس مجرد كلام فقط، بل هي بحوث. ولذلك نرى الإمام هذا فقيه كبير شارح المنهاج، ألّف كتاب حياة الحيوان ويتتبع فيه بالمنهج العلمي الدقيق ما أصل كل شيء، لكي عندما يقول حلالاً وحراماً يكون قائلاً عن علم لا عن جهل. قال:
حسناً، ما الذي استقذرته العرب أيضاً؟ قال: الضبع استقذرته العرب بالرغم من أنه ليس له أنياب، ولذلك سألوا. سيدنا رسول الله عندما سُئل عن حل أكل الضبع قال: "أويأكل الضبع أحد؟" يعني هل يأكل الضبع أحد؟ هل يوجد من يأكل هذا المخلوق المقزز؟ إنه أمر مستقذر. حتى أنني لا أهتم بما إذا كان ليس له مخالب أو ليس له كذا أو ليس له أنياب، ما شأني بهذا الأمر؟ وشيء مقرف جداً مثل ذلك، أحدهم سيكون إنكاراً،
حسناً، قالوا له لكن المشكلة ما زالت قائمة في الشيء الذي لم يُعرض على العرب. ابحثوا إذن عن شيء لا يكون للعرب فيه حكم، فذهبوا يبحثون حتى وجدوا الزرافة، قالوا الزرافة لا تعرفها العرب، لم تستقذرها ولم ترها ولا. أكلتها ولا أي شيء، وهنا بدأنا التفكير العلمي. التقسيم يقول لك مسألة الزرافة في الفقه هكذا الآن، لأنه انتهى، العقل العلمي في التقسيم والتصنيف الذي هو أساس علم الحيوان لم يعد شائعاً بين
الناس. فقال لكم: لماذا أنت مهتم بزرافة وغير زرافة؟ لا، كانوا مهتمين بكل شيء، لم يتركوا أي لكن هذا عن تجريبٍ وبحثٍ وعلمٍ، وليس عن كلامٍ أو استهانةٍ بالعلم. يعني أنتم تتركون المشاكل الكبيرة وتتمسكون بالزرافة. ما هذه المشاكل الكبيرة؟ هذا منهجٌ علمي، ليس في العلم شيء اسمه صغير وكبير، بل هناك ما يُسمى مسألة علمية. لكن لا نجعل المسألة قضية، نحن نتعلم في التفكير. المستقيم إلا نحتقر شيئاً من العلم، فقال لك: "الزرافة لم يعرفها العرب". لكي يقول هكذا يجب أن يكون حافظاً لأشعار العرب وخطابهم
وموروثهم الثقافي، ولم يجد فيه أبداً ذكراً للزرافة، ويعرف موطن هذه الزرافة وما قصتها. قال: والله يطبق عليها إذا كانت ليست من آكلات اللحوم وإذا كانت ليس لها... مخلب ولا ناب، إذاً هي ليست من السباع، فهي من بهيمة الأنعام، إذاً أُحلت بالعموم، فقد أحلت لكم بهيمة الأنعام. إذاً الغزال جائز والزرافة جائزة. ولكن لماذا قالوا عن الزرافة بالذات؟ لأن العرب لا تعرفها، أما الغزال فالعرب تعرفه وتعرف أن المسك يأتي منه وأنه يفوق الأنام وأنت... منهم فإن المِسك بعض دم الغزال. وإلى
لقاء آخر، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.