سورة المائدة | حـ 854 | 1 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة المائدة يقول ربنا سبحانه وتعالى: "يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود"، فأمرنا أن نوفي بالعقود، ثم يتلوها: "أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم". أوفوا بالعقود. أُحلت لكم بهيمة الأنعام، والمناسبة بين الأمرين أن العقود لا تقف عند العقود
المعلومة الظاهرة بين البشر، بل إن هناك عهداً وعقداً مع الله سبحانه وتعالى. أحل لنا في الأنعام وحرم علينا فيه الخبائث، ومنعنا في هذا العقد من أن نصطاد ونحن مُحرِمون، وأباح لنا الصيد ونحن حلال. هذا العقد أولى بالوفاء لأن الله جعل من علامات الإيمان وعنوان المؤمنين، جعل عنوان المؤمنين الوفاء بالعقود التي هي جارية بين البشر، فكأنه يقول: فما
بالكم بالعقد الذي بينكم وبين الله؟ إذاً، فالوفاء بالعقود، بكل العقود، فيدخل في كل العقود الاتفاقات الدولية، والنبي صلى الله عليه وسلم يرشد المسلمين في... الاتفاقات الدولية وهي قابلة لتغير المصالح وقابلة للتفاوض مرة ثانية وثالثة كلما تغير الحل، إلا أن تنزل على شرط الله ورسوله. وأنت حين تتفاوض معهم لا تقل إن الذي بيني وبينكم هذا على شرط الله ورسوله، فلعلك تخطئ شرط الله
ورسوله. أنزلهم على شرطك، وقل له هذا الذي اتفقت أنا لا تقل له هذا ما اتفقت عليه بينك وبين الإسلام، فليس لك شأن بالإسلام لأنك لست ممثلاً للإسلام. ولكنني مسلم وأنت مسلم، ويسعى بذمتهم أدناهم، صحيح، إلا أنك قد تخطئ في شرط الله ورسوله، فأنزلهم على شرطك ولا تنزلهم على شرط الله ورسوله، فلعلك أن تخطئ في شرط الله ورسوله. إذا كانت العقود الدولية والاتفاقات الدولية نتفق فيها حسب الحال، فنأخذ ما نقدر عليه ونجعلهم يقبلون شرطنا، فإذا تغير
الحال، إذا تغير الحال، نغير الاتفاقات طبقاً لمصالحنا. والاتفاق قائم بشروطه، فنوفي بالعقد. يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود. لا نخل بالعقد، إنما نعيد مرة أخرى العقد وننبذه عندما يخلون هم ننبذ إليهم على سواء، فها هو سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا في الحديبية كيف نوفي بالعقود. ذهب إلى الحديبية من أجل فك الحصار
عن خيبر في الشمال على بعد مائة وستين كيلومتراً من المدينة، حيث يوجد اليهود. أما مكة فهي في الجنوب على بعد حوالي ثلاثمائة وخمسين اتفقوا معاً أن يهجموا في يوم واحد هجوماً واحداً على المدينة، اليهود من الشمال والمشركون من الجنوب، فيُطبقون عليها بما يُسمى في العسكرية كماشة تكسر البندق، ذراع من فوق وذراع من تحت تضغط فتكسر. أرادوا أن يكسروا المدينة، فهؤلاء يأتون من فوق وهؤلاء يأتون من تحت ويصنعون كسارة البندق. أو كمّاشة ويقضوا على هذه المسألة بأكملها وينتهوا،
فيكون هناك كسّارة للبندق أو كمّاشة، يكون فيها ذراعان، واحد من فوق وآخر من تحت. فسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الذكاء العسكري، ويعلمنا فن التفاوض، ويعلمنا كيف نترك مساحة من أجل أن نحصل على مساحة أخرى، ويعلمنا التخطيط المستقبلي. لا من غباوة وظلام الشرك، لا تقم بأداء عمرة فمنعوه من حقه في البيت الحرام، ليس ملكاً له وهم لم يمنعوا
منه أحداً وهو ابن مكة وابن قريش عليه الصلاة والسلام. لا تدخل لئلا يقول العرب دخلت غصباً عنا. عقلٌ هذا! ماذا يريدون؟ قال: يريدون أن نصنع معاهدة. تعالوا السنة القادمة إن شاء الله وعليك خير. طيب نصنع معاهدة. الصحابة لم يرضوا حينما نقبل الدنية في ديننا. اصبر قليلاً. أيضاً هناك أناس غير راضين الآن وقالوا: لماذا لا نذهب ونضرب؟ انتظر فقط، الأمر يحتاج
إلى ترتيب. حسناً، نفعل هكذا، نعقد معهم معاهدة. فجاءه سهيل بن عمرو. ها جلس عمرو وقال: "بسم الله الرحمن الرحيم". فقالوا له: "لا، اكتب: بسمك اللهم". فقال: "احذف يا علي" وكتب "بسمك اللهم". ينبغي عليه أن يرى ما يريده. أما قصة "بسمك اللهم"، فهذا ما تعاهد عليه محمد بن عبد الله رسول الله. فقال: "لا، ليس رسول الله". قال له: "احذف رسول الله". لا تمحها أبداً يا رسول الله. ينبغي ألا تعطيهم كل شيء هكذا في المفاوضات. افعل ذلك أيضاً وخذ منهم واحداً.
فأمسك رسول الله الكتاب ومحاها هو بيده بريقه الشريف. فأي غرض أبعد من ذلك؟ وانتهت المعاهدة على أن أي واحد من المشركين يأتي مسلماً إلى النبي يرده، وأي واحد من يرتد عن الإسلام إلى مكة ويتركه، قال له: "حسناً"، وهو كذلك. قام وجاء أبو جندل ابن سهيل بن عمرو قبل أن يوقعه مسلماً. قال له: "يا محمد، هذا ابني ونحن اتفقنا". قال له: "لم نتفق، فهذا للتو ولم نوقع بعد". قال له: "والله لن أنساها لك يا محمد أبداً، انظر هذا التفكير استراتيجي، وذاك يفكر في ابنه فقط. قال له:
خذه، فمصلحة الأمة تتقدم على مصلحة الأفراد. أيُرَدُّ المسلم يا رسول الله للمشركين؟ نعم، الآن اصبر. لكنني لست راضياً بالصبر، لماذا؟ الرد ليس بالعواطف بل بالخطط. "أوفوا بالعهود"، فقد وفى بالعهود. وقَّعوا ورحلوا، ولم يستطع المشركون أن يكملوا. فضربوا واحداً، والنبي عليه الصلاة والسلام خلاص، بعدما ضربوه هكذا ذهب إلى فوق،
فإلى لقاء آخر، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.