سورة المائدة | حـ 855 | 2 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

سورة المائدة | حـ 855 | 2 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة - تفسير, سورة المائدة
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة المائدة يقول ربنا سبحانه وتعالى بعد بدايتها بآية: يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلاً. من ربهم ورضواناً وإذا حللتم فاصطادوا ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب.
كلمات تُكتب بماء الذهب، كلمات كل كلمة فيها يقوم عليها الاجتماع البشري حيث كان وفي أي زمان كان. كلمات فيها نور يخاطب فيها ربنا سبحانه وتعالى من آمن به "يا أيها الذين آمنوا"، ويكفي هذه الكلمة أن تخشع وأن تخر أمام جلال الله وجماله سبحانه وتعالى، وقد أذن لك أن تتلو كلامه وأن تكون الطرف الثاني في مواجهته، ولذلك من هنا سُميت الصلاة صلاة، فالصلاة هي العطف الشيء. المعطوف والعطف معناه أنك كنت تسير في طريق مستقيم
ثم ثنيت الطريق، ففيه طرفان، وطرف الصلاة الأول هو الله، وطرفها الثاني هو العبد الذي آمن بالله وامتثل لأمر الله. ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسر كل ذلك النداء: "يا أيها الذين آمنوا"، "قسمت الفاتحة بيني وبين فإذا قال العبد الحمد لله قال الله حمدني عبدي حمدني عبدي وإذا قال العبد الرحمن الرحيم قال أثنى علي عبدي وإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين قال وهكذا
فهناك تقسيم وهناك تجاوز من العبد بإيمانه ومن الرب وفي الدعاء دعاء الصالحين يقولون يا رب إذا عصيت غفرت وإذا حمدناك شكرت ربنا سبحانه وتعالى، يستحق منا الشكر ونحن لا نستحق شيئاً لأننا في ملكه، ولكنه سبحانه وتعالى هو العادل وهو الرؤوف وهو الرحمن وهو الرحيم، ولذلك فنحن في بحبوحة من جمال صفاته سبحانه وتعالى الرحمن الرحيم، وهو يحبنا
يا أيها الذين آمنوا. كانت هذه الكلمة في ظل هذا المفهوم إذاً. عندما سمعها الصحابة ارتعدت أفئدتهم، أي قبل أن يكمل "يا أيها الذين آمنوا"، يقول: "ماذا؟ إن ربي يخاطبني"، فيحدث له خشوع وخضوع وإخبات، ويحدث له حال مع الله سبحانه وتعالى. وهذا هو الفارق بيننا وبينهم، كيف أنهم قد خرجوا وهم حفاة عراة، فإذا بهم يبلغون النور إلى العالم، وما الذي يحدث فينا الآن من خوار وتفكك وعدم وحدة وعدم قدرة على أن نكون أمثلة صالحة أمام العالمين نبلغ عن رسول رسولنا الكريم وسيد
الخلق أجمعين ما الفرق بين أناس قد أخرجوا الناس من الظلمات إلى النور ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة ومن الجاهلية إلى الإسلام وبين أقوام قد ولدوا على الإسلام ونشؤوا عليه وألِفوه ولكنهم لم يفعلوا كفعل أولئك الأولين، الفرق هو السماع، أنهم كانوا يسمعون كلام الله سبحانه وتعالى على صفة لم نعد نسمعه كذلك، فعندما كانوا يسمعون "يا أيها الذين آمنوا" انتهى، هذا قول الفصل في حياته، نقطة فاصلة فارقة، ولذلك عندما يسمع ما بعدها ينفذها
فوراً. ويسارع في تنفيذها وكأنه لم يفعل ضدها أبداً وكأنه قد تربى عليها، تنقله من دائرة إلى دائرة. هذه النفسية وهذا الشعور وهذه الشخصية هي التي بنت الحضارة، وهي التي انتصرت، وهي التي أسست، وهي التي رحمت، وهي التي كان ربنا سبحانه وتعالى قد نوَّر عقولها قبل قلوبها وقلوبها قبل عقولها. وسلوكها قبل عقلها وقلبها، وقلبها وعقلها قبل سلوكها، سبحان الله، يعني بأمور لا تعرف أولها من آخرها، ولا تعرف بدايتها من نهايتها. يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله. تحل من أحل،
كون أنك تحل الشيء معناه تستبيحه، تجيز الهجوم عليه. هناك ما يسمى بالإقدام وهناك ما يسمى بالإحجام. الإقدام... الإقدام والإحجام في فعل: الإقدام فيه فعل، والإحجام فيه امتناع. المطعمات قبل الشرع - الشرع لم ينزل بعد - نُقدِم عليها أم نُحجِم عنها؟ إقدام أو إحجام؟ يقول لك: "والله ربنا خلقها لك، لماذا خلقها إذن؟" وكأنه
قد وضع مائدة أمامك، ولذلك فشأنها الإقدام وأنت لا تعرف إن كان الله يرضى عنها أم لا يرضى إلى أن... ينزل الشرع الشريف فيقول لك كن من كل شيء إلا هذا الشيء، خلاص أصبح هذا الشيء شأنه أن نحجم عنه الإحجام وبقية الثمر الإقدام. وكل من الأنعام، الأنعام تطلق على ذوات الأربع، فيدخل فيها المفترس وغير المفترس، يدخل فيها الخنزير والكلب، يدخل فيها الإبل والغنم والبقر، فقال لك طيب. كُلْ باستثناء الخنزير والكلب وما كان مثل الناب والمخلب والسباع الضارية وما
استقذرته العرب إلا ما يُتلى عليكم. يعني قال: كُلْ هذه الأشياء إذا ذُبِحَت، فحينئذٍ يكون تناولها مباحاً. وإذا كانت ميتةً وموقوذةً ومترديةً ونطيحةً وما أكل السبع منه، فيكون مُباحاً إلا ما ذكَّيتم. أي يكون إقداماً على الزكاة والإحجام عن الميتة بكل أنواعها وصورها، لا تحل هذه العقدة لا تحل شعائر الله. هذه الشعيرة والتكليف يبقى شأنه أن نقدم فيما أمرنا أو أباح لنا أن نقدم فيه، وأن نحجم عما نهانا عنه أو أمرنا أن نحجب عنه.
وإلى لقاء آخر، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله. وبركاته