سورة المائدة | حـ 860 | 2 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة المائدة يقول ربنا سبحانه وتعالى في الآية الثانية منها: "وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان". هذه العبارة صارت كالمثل عند المسلمين وأصبحت تستعمل دائماً في الأمر. بالمعروف والنهي عن المنكر وأصبحت تستعمل في تحديد المشترك الذي به التعاون بيننا وبين الخلق، فإذا كان الذي بيننا وبينهم من مشترك يدعو إلى البر وإلى
التقوى فبها ونِعمت ونتعاون مع غيرنا، فإن الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق بها، يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً وعلى ذلك وتعاون هنا أمر توجيه رباني بأهداف التعاون، والتعاون لا يكون إلا بين من بينهما مشترك، فهناك تعاون بين أهل الحي الواحد لأن الحي مشترك بينهم الجوار، وهناك تعاون فيما بين أهل البلد الواحد لأن البلد مشترك بينهم، وهناك
تعاون بين أهل الوطن الواحد، وهناك تعاون. بين أهل الملة الواحدة وهكذا، ولكن أساس التعاون ومبدؤه الاشتراك، فعندما نريد أن نحاور الحضارات وأن نحاور الأديان فأول شيء نفعله هو البحث عن المشترك؛ لأنني لا أتعاون معه على الإثم والعدوان حتى لو ارتأى هو في نفسه أو في مذهبه أو في دينه أن هذا ليس إثماً أو أن هذا ليس عدواً حتى لو تركته على حد قوله: "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي" أو على حد قوله: "لكم دينكم
ولي دين" أو على حد قوله: "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" فإنه لا يجوز لي لعدم الاشتراك أن أتعاون معه على الإثم والعدوان، قد لا يرى أن ما يفعله هو عدوان لكنني ما دام هو عدوان عندي أو لا يرى أنه إثم، هذا كان ما دام هو إثم عندي فهو محرم وليس مشتركاً بيني وبينه، ولذلك فليس هناك تعاون إلا على القدر المشترك، فإذا ما تكلمنا عن حوار الحضارات وحوار الأديان وحوار الإنسان فإننا نتكلم أولاً البحث عن المشترك، بعد البحث عن المشترك تأتي مرحلة التفهم والأهداف:
ما غرضك؟ ماذا تريد؟ ثم تأتي مرحلة التعاون، وتعاونوا على البر والتقوى. نتفهم، نبحث عن المشترك، نتعاون. فإذا كان ليس بيني وبينه أي مشترك، فهمنا وبحثنا ولم نجد مشتركاً، فهذا الذي بيني وبينه سيكون خصاماً ونزاعاً وصداماً. لا يمكن أن يكون بأي حال من الأحوال تعاون، حتى لو لم نتعاون فإننا أيضًا لن نتفق، حتى لو لم نصطدم فإننا أيضًا لن نتفق. إذا
تعاونَّا فهذا هو أمر، لكنه يلزم منه أمور أخرى وهي التفهم والتعارف ثم البحث عن المشترك فيحدث التعاون. ربنا سبحانه وتعالى جعلنا شعوبًا وقبائل. لماذا قال "لتعارفوا"؟ يعني أمرنا بالتعارف كخطوة أولى للبحث عن المشترك. البر والأفضل، ابتعد عن الأسوأ وافعل البر كخطوة ثانية للتعاون. "تعاون" على وزن "تفاعل"، وهذا الوزن في العربية يعني
أنه من الطرفين وليس من طرف واحد. "عاونه" ساعده من طرف واحد، "تعاون" هذا عاون هذا وهذا عاون هذا. المشاركة هي برزت من أين جاءت المشاركة التي نقول عنها من الصيغة نفسها، لأن تعاون لا يكون إلا من طرفين اثنين، فيكون هناك اشتراك، لأنه لو كان من طرف واحد لا تُستعمل هذه الصيغة، لكان قال: أعينوهم أو ساعدوهم، لكن "تعاونوا" أي أنت وهو، إذاً فهذه
مهمة الصيغة. تعاون تفعل تبادل تقاتل يعني هذا سعى لقتال هذا وهذا سعى لقتاله أيضاً، أما لو أنك أردت أن طرفاً ما سعى لقتال طرف آخر فتقول قاتله، لا تقل إذن ماذا؟ تقاتل. تقاتل يعني الاثنان ممسكان بعنق بعضهما وفي قتال مع بعضهما، وتعاونوا على البر والتقوى، البر ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله
واليوم الآخر. التقوى تقوى تكلمنا عنها كثيراً ولخص سيدنا علي بأنها الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والقناعة بالقليل والاستعداد ليوم الرحيل. الخوف من الجليل، إذاً فلا بد أن يكون مقصد التعاون هي هذه الأغراض التي أرادها الله لهذا الكون، ما هي الأغراض؟ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، والأغراض: هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا، أَيْ جَعَلَ وَأَمَرَكُمْ بِعِمَارَتِهَا، طَلَبَ مِنْكُمْ عِمَارَتَهَا. قَدْ أَفْلَحَ
مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا. إذن عِبَادَةُ اللهِ وَعِمَارَةُ الْكَوْنِ وَتَزْكِيَةُ النَّفْسِ، هَذَا مُرَادُ اللهِ. فَإِذَا جِئْنَا لِلتَّعَاوُنِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُؤَيَّدًا وَمُؤَيِّدًا بِهَذِهِ الثَّلَاثِ. فيها حياة، فيها عمارة للأرض، فيها عبادة لله، فيها تزكية للنفس عندما نتعاون من أجل الصحة، عندما نتعاون من أجل التعليم، عندما نتعاون من أجل البحث العلمي، عندما نتعاون من أجل التكافل الاجتماعي، عندما نتعاون من أجل الحياة، يكون ذلك كله على البر والتقوى،
وإذا اجتمعنا أو تعاوننا على أضدادها. يصبح هذا من الإثم والعدوان، وإلى لقاء آخر نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.