سورة المائدة | حـ 861 | 2 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة المائدة يقول ربنا سبحانه وتعالى: "وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب". عندما يأمرنا ربنا سبحانه وتعالى بالتقوى بعد أمره لنا. بما أمر بأي شيء أمر وعندما يقول بعدها واتقوا الله فيقول إن الله شديد العقاب، فالتقوى هنا تأمرنا
بمخافة الله سبحانه وتعالى وأن نضعه في منظومة حياتنا. فإن الذي أخرج الله جل جلاله من منظومة حياته ضل ضلالاً بعيداً، ضلالاً مركباً حتى أنه إذا أراد أن يعود لا يستطيع، واعلموا. أنَّ الله يحول بين المرء وقلبه، فتقوى الله هنا والأمر بها إنما معناها أن نخاف الله. ومن خاف الله وفكر فيه فإنه يجعله في منظومة حياته ويجعله معتبراً، لا أن يُخرِجه بكل خفة واستهزاء. حتى إنَّ أحدهم بينه وبين مخافة الله شهوات كثيرة
زُيِّنت له وحُجب كثيرة حجبته عن الله. سبحانه وتعالى فهو المحجوب. الإنسان هو المحجوب والله لا يحجبه شيء، فالحجاب دائماً يحجب قلب الإنسان من أن يصل إلى الحقيقة. ولذلك لما سأل عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه أُبَيّ بن كعب عن التقوى وقال له: "ما التقوى يا أُبَيّ؟"، قال له: "أسرت يا أمير المؤمنين في... طريقٌ فيه شوك. قال: سرتُ في طريقٍ فيه شوك. قال: فماذا فعلت؟ قال: شمرتُ ثيابي وأخذت
أحذر ما أرى حتى لا يضع قدميه على الشوك فيُشتاك ويؤذى ويُضار. قال: هذه هي التقوى. يعني أنت وأنت تمشي اتقيت، لكن هنا اتقيت ماذا؟ الشوك. أما هناك فستخاف وتراعي وتحذر وتستحضر وتنتبه. عندما قال ربنا أن هذه هي التقوى يا أمير المؤمنين، أكنت تفرق بين الشوك الصغير والكبير؟ الصغير لا مانع منه والكبير لا. قال له: لا، أفرق بين الصغير والكبير، كلاهما مؤذٍ. فأخذ ابن المعتز هذا الكلام الذي جرى بين عمر رضي
الله تعالى عنه وأبي رضي الله تعالى عنه. وصاغه شعراً وقال: دع الذنوب كبيرها وصغيرها، ذاك التقى، واصنع كما يمشي فوق أرض الشوك حذراً مما يرى. لا تحتقرن صغيرة، إن الجبال من الحصى، حتى صار قول ابن المعتز هذا مثالاً: "إن الجبال من الحصى، لا تحتقرن صغيرة". لا يوجد فرق بين الشوك الصغير والكبير، إن الجبال من إذا فلما اشتملت الآية على أوامر عدة وكانت هذه الأوامر مختلفة في مراتبها، أنهاها ربنا بالأمر
بالتقوى، أن كبيرها كصغيرها وأن الامتثال لا يتجزأ. "يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله" هذه واحدة، "ولا الشهر الحرام" هذه ثانية، ولكنها ليست بالمقدار الأولى فقد تكون أشد، "ولا الهدي" هذه ثالثة. وقد تكون أخف ولا القلائد وهذه أخف وأخف ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلاً من ربهم ورضواناً وهذه كبيرة أن تصد عن البيت الحرام وإذا حللتم فاصطادوا وهذه ترجع الأمر إلى ما كان عليه قبل الحظر ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا والعدوان
يعني مرفوض. لا تقولوا كبيرة، فهو كبير عند الله. "وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان". المعاصي مراتب كثيرة، بعضها كبائر، وبعضها يتعلق بالإنسان، وبعضها يتعلق بالآخر، وبعضها يتعلق بغرض القول كله، وبعضها إنما هو تفاصيل وجزئيات. والكل لا بد وأنت تعمل أن تفرق بين صغيرة وكبيرة، فكله من عند سبحانه وتعالى فيقول: "واتقوا الله إن الله شديد العقاب"، وهنا
يتجلى ربنا سبحانه وتعالى في نهاية الآية بالجلال بعد أن بدأها بالجمال. "يا أيها الذين آمنوا"، هذا هو الجمال، وبعد ذلك في الآخر "إن الله شديد العقاب"، هذا هو الجلال. إذن إذا تجلى الله عليك أولاً بالجمال حتى تطمئن. ثم في النهاية بالجلال ذلك يخوف الله به عباده: "يا عبادي فاتقون". الغرض منه الكمال. ماذا يعني أن تبدأ بالجمال وتنتهي بالجلال؟ قال: حتى يصل بك إلى الكمال.
يعني الحاصل ما بين الترغيب والترهيب. يعني لا بد عليك أن تثق في الله وأن تسلم لله وأن تتوكل على الله وأن الله سبحانه وتعالى وتعلم أنه الرحمن الرحيم، ولا بد عليك أيضاً أن تحتشم من الله وتخجل من الله، وأن لا يراك في موطن معصيته، وإنما يراك دائماً في موطن رضاه. ولذلك كان من دعاء الصالحين: "اللهم انقلنا من دائرة معصيتك إلى دائرة رضاك". انقلنا - وانتبه - فهذا من
دعاء هكذا يا رب انقلني من هنا ومن هنا. فالنقل ينقل بالضمير نقله. كثير منا يخطئ ويقول نقلة. لا، نص صاحب القاموس بأنها نقلة، يعني تقول: وهذه نقلة نوعية - الكلام الذي يقولونه في الأدبيات الحديثة. تقول فيها نقلة، وتقول: اللهم انقلنا، ليس انقلنا، من دائرة سخطك إلى... دائرة رضاك، فالإنسان إذا استجاب الله له هذا الدعاء، يكون قد قال: "اللهم اجعلني حيث ما
ترضى ولا تجعلني حيث ما تؤاخذني". كلام جميل هكذا، وكل هذا من دعاء الصالحين. انقلني من دائرة سخطك إلى دائرة رضاك. هذا من دعاء الصالحين، والنبي صلى الله عليه وسلم علمنا أن ندعو بهذا. الدعاء من أجل أن يعيننا ربنا سبحانه وتعالى على أن نتقيه وأن نخافه مع مزيد حبنا له سبحانه وتعالى ورغبتنا في جماله فهو الجميل، إن الله جميل يحب الجمال. وإلى لقاء آخر نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.