سورة المائدة | حـ 863 | 3 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

سورة المائدة | حـ 863 | 3 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة - تفسير, سورة المائدة
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة المائدة يقول ربنا سبحانه وتعالى وهو يعدد علينا ما حرم علينا: "حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ" إلى آخر الآية. وتكلمنا فيما سبق عن الميتة وعن الذكاة الشرعية وعن الذبح وعن العقر وعما يجوز أكله وما لا يجوز، والله سبحانه وتعالى حرم علينا الميتة فلا يجوز لنا إلا أن نأكلها عند الاضطرار،
والضرورة عرفها العلماء بأنها إذا لم يتناولها الإنسان هلك أو قارب على الهلاك، هذا هو حد الضرورة، فلا يجوز لنا أن لا نأكل المحرم إلا دفعاً للضرورة، والضرورة إذا لم نتناولها هلكنا، وحينئذ نكون قد ارتكبنا أخف الضررين؛ لأن ضرر إزهاق النفس أكبر من ضرر أكل المحرم. وعندما نأكل المحرم عند الضرورة إنما نأكل بقدر الحاجة ولا نتوسع.
فلو كانت أمامي معزة ميتة وكنت سأموت، أقوم بأخذ قطعة لحم تسد الرمق يعني الروح كأنها تخرج، فأنا سددتها كما تُغلق الزجاجة فلا تنسكب المياه منها. سددت الزجاجة فكأنك سددت مخرج الروح فلا تخرج. سد الرمق لا يجوز التوسع فيه بالأكل، فلا يصح أن نقول: دعونا نشوي ونقيم حفلة شواء ونأكل، هذا لا يجوز. إنما الأكل يكون على قدر الحاجة التي تدفع تستطيع تقدير قدرها، فنرى مقدار الضرر والضرورة
ونسده فقط ولا نزيد لأننا في الحقيقة إنما نتناول محرماً. إذا أُخذ من ذلك قواعد: ارتكاب أخف الضررين واجب، الضرورة تقدر بقدرها، الضرر يزال. ما دام هناك ضرر لا بد علينا أن نزيله، وعلى هذه القواعد بُنيت الشريعة: حُرمت عليكم الميتة يعني إلا اضطررتم إليه، قال تعالى: "فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه". وأنا أتناول الميتة، وكذلك أتناول كل ضرورة وكل شيء
حرمه الله علي. ولكن عندما وقعت في الضرورة اضطررت إليه، والضرورة تقدر بقدرها. وأنا أفعل هذا، أفعله، فهل يسمى هذا الشيء حلالاً أم هو ما زال حراماً منزوع يعني هذه الميتة حرام أو الخنزير وأنا آكله مضطراً، وأنا عندما آكله يظل حراماً لكن ليس له اسم ولم يصبح حلالاً. ولذلك هذه المعلومة ستفيدنا في قضية أننا لا
نزيد فيه، فهو لم يصبح حلالاً، وما زال يوصف بأنه من جنس الحرام، إلا أنه في هذه الحالة - حالة الضرورة يعفو عنا ربنا لا يؤاخذنا، ولذلك ونحن نأخذه على أنه حرام أيضاً لا نستحله ونتوسع فيه، بل على قدر الحاجة إليه. ونحن في عصر كثُر الاحتياج إلى الضرورة فيه، فيجب علينا أن نفقه شأنها، شأن الضرورات التي تبيح المحظورات. وهذه قاعدة رابعة: الضرورات تبيح المحظورات، لكن بقدرها، وتقول بقدرها. بسكون الدال أو بقدرها
بفتحها جائز لئلا يقول لك الناس إن الدال هنا فُتحت من الشيخ أو ما شابه، لا، جائز قَدْر وقَدَر فالاثنتان لغتان جائزتان. والضرورة تُقَدَّر بقدرها، والضرورة تُقَدَّر بقدرها، وجهان لغتان وبهما قُرِئ، يعني قُرِئ في القرآن قَدْر وقَدَر. حُرِّمَت عليكم الميتة والدم، وتكلمنا أن حرمة الدم كانت على الدم المسفوح السائل، أما الدم غير السائل فهو مباح من قبيل العفو.
هناك أشياء تكون نجسة في ذاتها ولكن ربنا يعفو عنها. يعفو عنها لماذا؟ يعفو عنها لأنها قليلة لا يُلتفت لمثلها. قال ماذا؟ يعفو عنها لأنه من الصعب أن تتحرز منها أو لجهلٍ ما. يعفو عنها لأننا... لا نستطيع أن نتتبعها، أهي جهل يُعفى عنه لأسباب كثيرة. إنما هناك معفوات، وقد ألف الإمام النشوي كتاباً أسماه "المعفوات بالنشوة" في المذهب المالكي، وألف ابن العماد كتاب
"المعفوات" للشافعية، وعدّوا المعفوات فأوصلوها إلى أكثر من ستين عفواً، مثل الطين في الشوارع المتنجس وأنا أمشي، والمطر نزل على شارع غير أصبح الطين أيضاً نجساً، فتطايرت قطرات الماء وأنا أمشي بسرعة لأدرك الصلاة على ثيابي. قال لك: "لا يهمك، معفو عنه"، لماذا؟ لأنه يصعب التحرز من ذبابة وقفت على نجاسة، ثم طارت ووقفت على ملابسي. حسناً، وأرجل هذه الذبابة أليست متلطخة بالنجاسة؟ أليست متلطخة أيضاً؟ يعني...
قدرها، ما هو الذي يريد أن يوسوس فليوسوس، وعندما وُضعت هنا هو قالوا: لا، وسِّع صدرك. نعم، نحن نحب التطهر ونحب النظافة، لكننا لا نحب الوسواس أبداً. وهذه المعفوات جعلها الله لأجل ماذا؟ لأجل التوسعة وعدم الوسواس. فعندما تقف الذبابة على ثيابي، على ملابسي، يقول لك: نجاسة لا يدركها. الخطأ لا تراه العين لأن أرجل الذبابة صغيرة، لكن هل يوجد أم لا يوجد؟ يعني لو أحضرنا مجهراً، فهناك أناس تحب التدقيق هكذا، نعم. عندما نحضر مجهراً سنجد شيئاً، ولكن هذا الشيء قد عفا الله عنه. فعندما تضيق على نفسك أمراً واسعاً، ففكرة المعفوات
جاءت لتطبيق الدين بيسر دون تشدد. وسواس كذلك الدم الذي يوجد في اللحم، ألم نقل إن الدم حرام؟ اشتريت اللحم من عند الجزار طازجاً ووضعته في الماء، فوجدته أيضاً يلون الماء ويصنع رغوة على سطح الماء. نعفو عنه، يعني اشرب المرق. أما البيض، هذا البيض عندما ينزل من الدجاجة يقول... لقد أردت أن يُغسل، نعم يُغسل نظافةً. وضعتُ البيض هنا لأسلقه، وبعد ذلك والله أنت ستحرم علينا ما بين
السماء والأرض أبداً. ربنا يسّر لنا وفتح لنا، وبعض الناس على خلاف مراد الله فينا يريدون التضييق علينا. فلنقل لهم: أنت لست على منهج الله، أنت تظن أنك النظيف ونحن لسنا نحن النظيفون من الداخل لأنه لا يوجد وسواس، ولأن هناك سهولة، ولأن هناك عبادة. الله يبارك وأنت الذي تعارض منهج الله، البعيد الذي تظن نفسك أنك أفضل من الخلق. هذه المهمة في التربية كذلك ليست مجرد حكاية هذا نجس وهذا طاهر، وهذا موسوس وهذا غير موسوس. وإلى لقاء آخر. نستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته