سورة المائدة | حـ 864 | 3 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة المائدة، يقول ربنا سبحانه وتعالى: "حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ" إلى آخر الآية، وعندما قال: "حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ" ولم يقل: "حرَّم الله عليكم". الميتة، فلماذا، لماذا قال: "حُرِّمَتْ عليكم"، ولم يقل: "حرَّمَ الله عليكم"؟ قالوا: يُبنى
الفعل للمجهول. أو أحياناً عبارة أخرى للنحاة، يقولون: يُبنى الفعل للمعلوم أو للمفعول. مرة يقولون المجهول ومرة يقولون المفعول، يعني يجعل المفعول به فاعلاً. "حرَّمَ اللهُ الميتةَ"، تكون "الميتةُ" ماذا؟ مفعول به. جعلها هنا كأنها نائب فاعل: حُرِّمَتْ عليكم الميتةُ، حُرِّمَتْ الميتةُ، حرَّمَ اللهُ الميتةَ. هذا هو أصلُ العبارةِ. فالميتةُ التي كانت مفعولاً به أصبحت نائبَ فاعلٍ عن فاعلٍ. أُضمِرَ لماذا؟ قال: لأسبابٍ. أولُ هذه الأسباب ماذا؟ هو الأولُ الأسبابُ: العلمُ بالفاعل،
العلمُ بالفاعل. فعندما يقول: حُرِّمَتْ عليكم الميتةُ، فكأنه قال إنَّ الحاكمَ وحدَه باتفاقِ العقلاء. وباتفاقكم ومعروف لديكم أنه الله وحده لا شريك له فلا حكم إلا لله، إن الحكم إلا لله ولا حاكم إلا الله، وهذا أمر معروف، وهو يُبنى للمفعول أو للمجهول، يريد أن يقول: أنت أخونا السامع متفق طبعاً، وتعرف من الذي حرّمه، ولا يحتاج ذلك توضيحاً،
ولو كان محتاجاً لقال: حرّم الميتة، إذاً في هذا معلومة جديدة، يأتي بها في بعض الآيات. لا ضير في أن الذي حرّم هو الله لكي يؤسس قاعدة لا نختلف فيها. تأسست، إذاً انتهى الأمر، فأصبح معروفًا لدى كافة المؤمنين الموجه إليهم الخطاب أن الحاكم هو الله. ولذلك ابن الملك يقول: أيجوز حذف ما يُعلم؟ جائز، من المعلوم أنه في هذه الحالة لن يسأل أحدٌ مَن الذي حرَّم، لا أحد سيسأل، ولذلك يجوز استخدام المبني للمجهول أو للمفعول. له أسباب،
أول هذه الأسباب العلم. يعني الإدراك واليقين والقطع الذي لا خلاف فيه. العلم معناه هكذا: القدر اليقيني من المعرفة، وأنت متيقن أن الحاكم هو الله كلامٌ ومذاهبُ واختلافٌ وآراءٌ، لقد اتفق المسلمون سلفاً وخلفاً، شرقاً وغرباً، بجميع طوائفهم: سنةً ومعتزلةً وشيعةً وإباضيةً وكل المذاهب الإسلامية - ما داموا من أهل القبلة - أن الحاكم هو الله. "حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ"، إذا هنا
نصٌ على لحم الخنزير، يعني نصُّ الكتاب على لحم الخنزير، فهذا اليقيني في تحريم الخنزير هو لحمه، وماذا عن جلده وعظمه وشعره ودمه وهكذا؟ قيل لك إنه ثبت بالسنة أن كل هذه الأشياء محرمة ويُمنع الاستفادة منها ويُمنع الاقتراب منها ويُمنع الأخذ بها ومنهي عنها، وما ثبت بالسنة إنما هو كما ثبت بالقرآن لأن مصادرنا هي الكتاب والسنة.
فحرَّم الله نصاً لحم الخنزير وحرَّم رسوله صلى الله عليه وسلم سائر الخنزير، فيأتيني شخص ويقول لي: "والله صنعوا فرشاة أسنان من شعر الخنزير، حرام". طيب، ودهن الخنزير الذي ندهن به السفن، حرام؟ طيب، وعظم الخنزير، لا أعرف ماذا سنفعل به، حرام؟ قال: "طيب ولكن أرجو أن توسِّع صدرك قليلاً". الخنزير محرم أي كله بالكامل من أوله إلى آخره، كله بالكامل حرام. وعند جماهير العلماء هو نجس في حال حياته وحال موته. انتهى
الكلام. ثم قال: حسناً، نريد قطعة عظم من رجل الخنزير لنصنع بها جبيرة لشخص، أيجوز ذلك أم لا يجوز؟ فقال: نعم، هذه مسألة أخرى بهذه الصورة أنت... أريد أن أتداوى بالمحرم، فقال الإمام الشافعي: "ويجوز التداوي بالمحرم عند الحاجة إليه". إذاً لابد أن نشترط ما هي الحاجة إليه. نعم، عظم الخنزير يقولون لك إنه أفضل عظم يصلح لهذا الأمر وهو المناسب وله مزايا كذا وكذا. حسناً، أنا محتاج إليه لإصلاح هذا. لكن هل هذا الكسر يصل بنا نعم، هذا يجعلني أمشي جيداً
وأجاهد في سبيل الله جيداً ويعتدل جسمي جيداً وهكذا. قال: ما الدليل على ذلك؟ قال: الدليل هو أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أباح لبعض المرضى أن يتداووا بطب زمانهم بأبوال الإبل، وبول الإبل عنده - عند الشافعي - نجس. قال: إذن فقد بالطبع وعندئذ يكون التداوي مستثنى من الاستعمال. أن يشربوا هكذا يعني من غير تداوٍ، لا، يشربونه. أما من أجل التداوي
فيكون جائزاً استعمال المحرم حتى نصل إلى الشفاء. ما خلق الله داءً إلا وخلق له دواء. فالخنزير محرم وسيظل محرماً، لا نأكله ولا نقربه، أي لا نبيعه ولا نشتريه نربيه ولا نفعل أي شيء ولا نستفيد منه أبداً إلا عند الضرورة. قال: حسناً، أنت لم تفهم معنى الضرورة بعد. مرةً قلتَ أن الضرورة هي ما إذا لم يتناولها الإنسان يهلك أو يقارب على الهلاك. وهو برِجْلٍ مكسورة، هل سيموت؟ ما الذي سيقتله يا أخي؟ وسيعيش أيضاً. قال: لا، أنت هكذا أصبح هناك قاعدة ثانية تقول:
"والحاجة ما لم يتناولها الإنسان أصابته مشقة، ما لم يتناولها الإنسان أصابته مشقة، تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة". بقية الكتاب هكذا، فأحياناً يقرأ المرء ربع الكتاب ويترك ثلاثة أرباعه، وهذا ما ابتُلينا به في زماننا هذا من... أن يقرأ المرء سطراً ويترك الباقي، والحاجة التي تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة، فسنلحق بالضرورة الحاجة التي تنزل منزلتها. فالتحريم هنا إذاً مشروط بشروط، لكنه تحريم وسيظل الأصل فيه أنه حرام
لا نقترب منه. حتى قال الشيخ خليل في المختصر: "والنظر إلى الحرام حرام". وإلى لقاء آخر، نستودعكم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته