سورة المائدة | حـ 868 | 3 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة المائدة وفي الآية التي يعدد الله علينا ما حرم علينا أن نأكله، يقول سبحانه وتعالى بعد ذلك: "يئس الذين كفروا من دينكم". إذاً فهذه الأمور التي تميز جماعة المسلمين. يجب على كل المسلمين في كل مكان في العالم سواء كان في مجتمع مسلم يراعي أحكام الله ويقدس شريعته ويطبقها، أو في مجتمع يقدس الشريعة ويتهاون
فيها، أو في مجتمع غير مسلم لا يقدس الشريعة بل قد لا يعرفها، فإن المسلم عليه أن يتمسك بتحريم الخنزير والميتة وما شابهها وأن يعلن ذلك واضحاً جلياً، ديني يأبى هذا وخلاصي في الابتعاد عنه، فهي علامة المسلمين، لا يتخلى عنها إلا إذا خاف على نفسه الفتنة. قالوا له: والله هذا مسلم، سنقتلك. نعم، في هذه الحالة يجوز لنا، إلا أن تتقوا منهم تقاة، إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان. في هذه الحالة نرتكب مجتمعات تعرف الحرية فلا
بد على المسلم أن يعلن ذلك وليس له أن يجادل ولا يداري في هذا ويأكل لحم الخنزير حتى لا يقال ويشرب الخمر حتى لا يقال أبداً، لأن هذه من علامات الإيمان ومن مفاصلة جماعة المسلمين وليس فيها أي إضرار بالغير بل فيها إعلان بوضوح عن العقيدة يئس الذين كفروا من دينكم أن يُبدِلوه أو يُحرِّفوه أو يدخلوا من خلال هذه العلامات، ولذلك ترى أن هذه العلامات وقد نُصَّ عليها في القرآن أصبحت متفقاً عليها بين المسلمين، لا نقاش فيما بينهم، ولا
يقول أحد منهم أبداً كائناً من كان في أي عصر كان وفي أي مكان كان. وعلى أي حال كان ومن أي شخص كان من المسلمين لا يقول بغير ذلك اليوم، يعني هذا اليوم الذي نزلت فيه الآن، ويعني أيضاً هذا اليوم الذي تتمسكون فيه بما حُرِّم عليكم، وهو يوم دائم أبداً، فنحن نديم هذا التحريم، فنجدد بهذا التحريم إيماننا، اليوم يئس الذين كفروا من دينكم. واليأس
هو عدم الأمل. والذين كفروا عندما يستيئسون من المؤمنين، فمنهم من يعتدي عليهم. ما هو ذلك اليأس؟ أصبح [الكافر] يائساً، فماذا سيفعل؟ يقوم بضربك. ومنهم من يتركك في شأنك، ولا يقترب منك ولا شيء، يتركك هكذا في حالك. فهم ليسوا على عقيدة واحدة وليسوا... على قلبٍ واحدٍ ولا بتصرفٍ واحدٍ، فهذه الكلمة: "اليوم يئس
الذين كفروا من دينكم" قد تكون إنذاراً لك بالحذر من مكرهم، وأنهم قد يعتدون عليك، أو من مكرهم وأنهم قد يحجمون عنك. ولذلك قال: "فلا تخشوهم واخشوني"، سواء اعتدوا عليكم فلا تخافوا فالله ناصركم، أو كفوا عنكم أذاهم فلا تخافوا. من مكرهم، فإذا ما أخرج المؤمن المسلم خشية غير الله من قلبه فإنه
يتعامل مع العالمين باستواء، يتعامل مع العالم بقلب مفتوح، ليس خائفاً. ماذا ستفعل بي؟ أستضربني؟ الله سينصرني عليك. أستتركني؟ الله سيقيني. أي مكر تكون فيه يا أهل، عندما أخرجت خشية غير الله من قلبي أصبحت. هناك ثقة في الله ثقة في النفس وعندئذ قلبي مفتوح للجميع فلا تخشوهم واخشوني. حسناً، لو قال فلا تخشوهم فقط دون واخشوني، لتكبر عليهم،
فأنا لست خائفاً منهم، لكنه منع الكبر وقال واخشوني. والنبي يقول صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من..." خردل من كَبُرَ يصبح كما قال بعض المفسرين "يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم". قالوا لو قال الله لها كوني برداً وسكت، أي انتهى الأمر عند هذا الحد "برداً"، لكانت قتلت سيدنا إبراهيم من شدة البرد. لكنه قال برداً وسلاماً، أي برداً حتى لا يحترق من النار، لكن... إلى أي
درجة؟ إلى درجة حرارة السلامة كما في قوله تعالى: "فلا تخشوهم"، حسناً، لا خوف منهم، فيكون هناك اعتزاز بالنفس. نعم، ولكن يقف الاعتزاز بالنفس عند حد عدم التكبر. "واخشوني"، "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت"، قال لعمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه: "والله
لو نزلت فينا لاتخذنا يوم نزولها للكلمة هذه، إنها كلمة بليغة جداً، من أين أتيت بها؟ هكذا يريد أن يقول له إن الله هو الذي أنزل. فسيدنا عمر سُرَّ جداً بكلام هذا اليهودي وقال: "والله إني أعلم متى نزلت، في حجة الوداع في عرفة، وكان يوم جمعة"، يعني المسلمون يتخذون يوم الجمعة عيداً لهم. قال الله هو عيد في السماء فهم يتخذونه عيداً، ولذلك تجدهم ذاهبين إلى المسجد ويصلون الجمعة ركعتين التي هي بديل صلاة الظهر،
ويخطبون ويقومون بالشعائر وهكذا. فكان هذا بشرى للمسلمين. وإلى لقاء آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم