سورة المائدة | حـ 880 | 4 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة المائدة يقول ربنا سبحانه وتعالى: "يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات". وعرفنا في حلقة سابقة أن الأصل في الأشياء الإباحة، والأشياء هي كل ما نتناوله، وحد الطيبات أن تكون من مائدة الله سبحانه وتعالى أو في خلقه أو في كونه لكنها خالية من أمور خمسة، وقد عددنا هذه الأمور وهي أن تكون غير مُسكرة، غير مخدرة، غير
ضارة، غير مستقذرة، غير نجسة. فإذا خلت من شيء من هذه الأمور الخمسة فهي من الطيبات، وإذا كان فيها صفة صفتان أو ثلاث أو أربع من بابي الأولى فهو من الخبائث المحرمات، وهذه القاعدة قاعدة عظيمة وهي أن الأصل في الأشياء الإباحة. ماذا تعني هذه القاعدة؟ تعني أنه يجوز لك أيها المؤمن أن تقبل على ما لا تعرف فيه شيئاً من هذه الخمسة، مياه
الأغذية، وأدرج المياه الغازية، وبعد ذلك هل تعلمون أهي حلال أم حرام؟ هي أمامي هكذا، لكنني متأكد أنها ليست مسكرة ولا مخدرة ولا مستقذرة ولا نجسة ولا ضارة. إنني متأكد مائة في المائة أنها حلال، هل تفهمون؟ ولا أستطيع نقلها من دائرة الحلال إلى دائرة الحرام إلا إذا بحثت أولاً وتبين لي يقيناً أن فيها صفة من صفات الآية الخمس هذه، ولو صفة واحدة تحققت وظهرت
وتبين أنها موجودة، تصبح حلالاً. أما عبارة "الأصل في الأشياء الإباحة" فلا تجعلك تتوقف عن التناول. افترض أنك عندما لم تتوقف عن التناول، تبين لك بعد سنوات أن فيها صفة من هذه الصفات، فعليك حينئذٍ أن تتوقف، ولكن بعد ماذا؟ تبين يقيناً ليس هكذا أن نسمع إشاعات. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع". نسمع من هنا ونطلق الإشاعة من هنا في شأن الأشخاص وفي شأن الأشياء وفي شأن كذا وكذا. ممنوع، هذه أمة علم،
فليس هناك شيء آخر أكثر من ذلك مناط الشيء تتغير حقيقته، أعطيكم مثالاً: عندما ظهر الدخان (التبغ)، كان الأصل في الأشياء الإباحة. الأصل في الأشياء ماذا؟ الإباحة. فيصبح تدخين التبغ مباحاً، فتناوله الناس وتناوله العلماء. وبعد ذلك تبين بعد الأبحاث الكثيرة وبعد التدقيقات أن فيه ضرراً يقينياً، وأنه سبب من أسباب الإصابة
بالمرض الخبيث السرطان، وأنه سبب بتشخيص الأطباء في الوفاة أصبح ملحقاً برقم خمسة الذي يشتمل على الجرب، فأفتى العلماء بحرمته. أولاً اختلفوا فيه، ثم بعد ذلك أجمعوا على حرمته. هل اختلف الحكم؟ هو في الحقيقة لم يختلف، ففي البداية قال حلال باعتبار أنه لا يشتمل على شيء من الخمس، ولما... قال حرام، وذكر أنه يشتمل على واحدة من الساعات الخمس التي يتغير تصنيعها. فعندما
تتغير صناعتها وطريقة التصنيع، يُختبر ليخرج هذا الدخان. في البداية تماماً كان يُستنشق وحده هكذا، ثم جاءت فترة عليه وأصبحوا -أكرمكم الله- يضعون عليه ويُخمّرونه بأبوال الخيل النجسة، ثم يُدخنونه. نعم، هذه الصناعة هنا جعلته نجساً. يكون محرقاً، ولذلك ترى الشيخ الباجوري في حاشيته الفقهية مختلفاً عن حاشيته التوحيدية في الحكم على الدخان. فقد قال العلماء إنه اطلع على ما لم يطلع عليه من قبل، فقال: "حلال" على أساس أنه ليس فيه
شيء ضار. قالوا له: "يا مولانا، لا، إنهم يضعون فيه مواد ضارة". فقال: "إذن يجب على الإنسان أن يراعي تغير الأحوال، فعندما لم يكونوا يضعون فيها (مواد ضارة) كانت حلالاً لأنها لم تكن تسبب ضرراً في رأيه، وعندما أصبحوا يضعون فيها (تلك المواد) أصبحت حراماً، حتى نفس الأنواع من هذه الأشياء. أحد المشايخ الكبار كان يدخن هذا الدخان، وعندما جاء إلى مصر -وكان في يدخن قالوا له لماذا؟ قال إن رائحته سيئة، هذا الدخان الذي كان عندنا في الجبال كانت رائحته مثل البخور طيبة، والله يبدو أن هناك أنواعاً لا نعرفها، ولكن
الآن كل الدخان رائحته سيئة ونتنة، كل الناس يقولون عنها هكذا، ولذلك أفتى العلماء واجتمعت كلمتهم على حرمة الدخان، هذا هو ما... لا يأتيني أحد ويقول لي: ولكن هذا في الماضي، في القرن الماضي جاء عالم وقال، وعالم كبير، إنه حلال. نعم، هو قال حلال على شيء آخر، أو قال حلال على نوع آخر، أو قال حلال بطريقة أخرى، أو قال حلال لعدم علمه بما يشتمل عليه من ضرر، يا هذا أو يا هذا يا ذاك، فلن نتحدث معه ولا نأخذ بكلامه لأن الدنيا تغيرت. والذي معنا الآن هذا المجرب الموجود في الأسواق، ليس فقط حرام أو غير حرام، بل هو حرام بالاتفاق. حرام بالاتفاق لماذا؟ لأننا قلنا إن معيار الفرق بين الطيبات والخبائث كم
شيء؟ خمسة أشياء. السُّكْرُ والتخديرُ والاستقذارُ والضررُ والآيةُ والنجاسةُ، ولذلك يجبُ علينا أن نفهمَ الواقعَ وأنَّ الفتوى تختلفُ باختلافِ الزمانِ والمكانِ والأشخاصِ والأحوالِ، وأنَّ المرادَ في كلِّ ذلك هو اللهُ ورضا اللهِ جلَّ جلالُه. وإلى لقاءٍ آخرَ، نستودعكم اللهَ، والسلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه.