سورة المائدة | حـ 885 | 6 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

سورة المائدة | حـ 885 | 6 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة - تفسير, سورة المائدة
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة المائدة يأمرنا ربنا سبحانه وتعالى بالتطهر قبل الصلاة، ويصف لنا حال الوضوء الذي فرضه علينا قبل أن نناجيه وأن ندعوه وأن نعبده في الصلاة التي قد افترضها علينا. قال: تعالى يا أيها الذين آمنوا فالخطاب لخصوص المؤمنين ولذلك أخذ العلماء من هذا أن النية في العبادات يُشترط فيها الإسلام وأنها إذا وقعت من غير المسلم لا تقع صحيحة فشرط
النية وشرط قبولها عند الله أن تكون مع الإيمان به سبحانه وتعالى فلو أن أحد على سبيل المثال من غير وجهه ويديه ورجليه بعد ما مسح رأسه فإنه لا يكون مستعداً للصلاة، وذلك أن النية ركن في الوضوء، وأن النية تحتاج إلى الإسلام كشرط للقبول، فإذا لم يكن مسلماً لا تُقبل منه الأفعال حتى لو أتى بها كما يأتي بها المسلم، وكذلك الشأن في الصيام وفي الصلاة وفي الحج وفي سائر العبادات إذا أتى بها غير المسلم على ما هي عليه كما أتى بها المسلم فإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى،
والأمر في ذلك متعلق برضا الله وبقبوله سبحانه وتعالى، وهو الذي جعل الإسلام شرطاً للقبول وللنية التي يتقبلها عنده سبحانه وتعالى، فقد جعل الخلاص إليه عن طريق النبي المصطفى والحبيب المجتبى والإيمان به ولا يُقبل شيء عنده إلا من هذا الباب، ولذلك جعل الشهادتين من أركان الإسلام. أشهد أن لا إله إلا الله لا تكفي حتى تقول وتشهد صادقاً من قلبك وأشهد أن محمداً رسول الله، فكل الأبواب سُدَّت سوى باب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم. هذا هو الخلاص عند المسلمين أن يؤمن البشر بالنبي المصطفى صلى الله عليه وسلم،
وكما ذكرنا مرات فإن الذي بيننا وبين الناس في قبل العقيدة والدين هو النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأهل السنة والجماعة على اعتدالهم، فالفرق بينهم وبين كل سائر البشر حتى من المذاهب الإسلامية المرعية المعمول. بها إنما هو المصطفى صلى الله عليه وسلم آمنّا بأنه نجح في اختيار أصحابه الكرام وفي اختيار زوجاته عليهن السلام، وقال بعضهم أنه لم ينجح في ذلك. آمنّا بأن الله قد حفظ عليه كتابه من بعده كما وعد وقال: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون"، وبعضهم لا يرى ذلك. آمنا بأنه مصطفى من عند الله وأنه
نبي خاتم وأنه هو الذي بشرت به الأديان كلها وغيرنا لم يؤمن بذلك. آمنا بأنه وسيلتنا إلى الله سبحانه وتعالى وأنه هو حجتنا عند الله وغيرنا لم ير ذلك. آمنا بأنه حي في قبره وأنه يرد الله عليه روحه كلما صلى عليه مصلٍ. أو سلَّم عليه مسلمٌ فيرد عليه السلام، وغيرنا أنكر ذلك. فالحمد لله الذي جعلنا من هذه الطائفة المعتدلة الوسطية التي عظَّمت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه وفي نفسه وفي نبوته وفي أهل بيته الكرام، صلى الله عليه وسلم. يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فدل ذلك على أن
الخطاب للمؤمنين ودل ذلك على أن الإيمان إنما هو شرط لقبول النية بل وفيه إشارة إلى أن النية ركن من أركان الوضوء. قوله تعالى "إذا قمتم" يشير إلى مسألة عجيبة غريبة قد يغفل عنها بعض المفكرين الذين ابتلينا بهم في عصرنا هذا. يقول لك ماذا تعمل؟ فيقول... كل مفكر إسلامي يعتقد أن التفكير ليس عيباً، بل إن التفكير قد أُمرنا به. إنما العيب أن يتكلم الإنسان منهم بغير علم، وأن يخالف ما أجمع عليه المسلمون شرقاً وغرباً، سلفاً وخلفاً، وأن يظهر لنا كل جيل ببدع ما أنزل الله بها من سلطان، وهي على خلاف مراد الله
ورسوله، والأحاديث وما أجمعت عليه الأمة، ثم بعد ذلك وتحت عنوان حرية الفكر، يقول من شاء ما شاء في دين الله، فإنا لله وإنا إليه راجعون. الفكر يجب أن يؤسس على العلم وعلى المعرفة الصحيحة وعلى اللغة الصحيحة التي أنزل الله بها كتابه وجعل نبيه ينطق بها، فكان أفصح العرب الفكر. الفكر واللغة وجهان لعملة واحدة. ينبغي ألا يخرج بنا الفكر عن سبيل المؤمنين، "ومن يتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً". إن هذه اللفتة التي سنذكرها يغفل عنها كثير من
الناس، وهي أننا لا نستطيع أن نتفكر إلا في حدود ما أجمعت عليه الأمة، والأمة أجمعت الوضوء قبل الصلاة. هل سمعتم أحداً يصلي ثم يتوضأ؟ ها الشيخ هنا ضحك. لم نسمع ولن نسمع. ولكن الله يقول: "يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم". لا يأتي شخص يقول: "قمتم" فعل ماضٍ، فيكون معناه: صليتم. بل "قمتم" هنا تعني: إذا أردتم القيام إلى الصلاة. فاء، والفاء للتعقيب: "فاغسلوا وجوهكم".
نصلي، نذهب، نتوضأ. لا، لا. ولم يفهم هذا أحد من العرب ولا من المسلمين ولا من الفقهاء المجتهدين ولا من العلماء العاملين ولا من الأتقياء أهل الله أجمعين. لم يخطر في بال أحد هذا المعنى. هذا غير ممكن في اللغة، قد يصلح في اللغة، لكن أجمع المسلمون على أن المعنى كذلك ولذلك أجمع المفسرون وأهل العلم أجمعين، أجمع أهل العلم جميعاً أن معناها: إذا أردتم القيام إلى الصلاة. أين "أردتم" في النص؟ لا
وجود له، لكن لا بد من إضافتها للإجماع. إذاً هذا الذي يخرج لنا وينكر الإجماع لا يلتفت إلى أنه يغير معالم الشريعة، هذا الذي يدّعي أنه يفهم. القرآن مستقلاً عن السنة أو مستقلاً عن اللغة أو مستقلاً عن الإجماع فإنه يكون يريد ديناً جديداً مغيراً لدين الإسلام الذي ورثناه عن آبائنا. هذا الذي يريد أن يجدد في الإسلام بمعنى أن يهدم الماضي وأن يبني شيئاً جديداً هذا معنى مرفوض. إنما التجديد معناه أن نعيش بالموروث وكيف هذا. مع
عصر المتغير لا نغيب عنه ونضع أقدامنا في وسط الحضارة الإنسانية ونسهم فيها مع عدم الذوبان بل والحفاظ على هويتنا، هذا هو التجديد الذي لا يحسنه كل أحد، أما الهدم فيحسنه كل أحد، وأما الابتداع فهو سهل، وأما التفكير على غير قواعد علمية فهو أمر ميسور، وليس الأمر كذلك. والله أعلم بما هنالك، فيا ربنا اشرح صدورنا لفهم كتابك ومرادك من كتابك يا أرحم الراحمين، وإلى لقاء آخر نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.