سورة المائدة | حـ 895 | 6 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة المائدة وعند قوله تعالى "أو لامستم النساء فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً"، ذكرنا أن الإمام أبا حنيفة اختلف مع الإمام الشافعي، وعندما نقول ذلك فإن هناك خلافاً حدث أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وبين الشافعي رضي الله تعالى عنه نقصد بين مذهبيهما، فإن أبا حنيفة مات في سنة مائة وخمسين، وهي السنة التي وُلِد فيها
الشافعي رضي الله تعالى عنه وأرضاه. إذاً فهم لم يتقابلا، وإنما مذهب الإمام أبي حنيفة ومذهب الإمام الشافعي بقي إلى يوم الناس. هذا فعندما نتكلم فهذا فيه نوع من أنواع المجاز. اختلاف الشافعي مع أبي حنيفة أو أبي حنيفة مع الشافعي معناه اختلاف مذاهب هؤلاء الأئمة. وكان الإمام الشافعي يُعظّم الإمام أبا حنيفة أيما تعظيم، حتى أنه قد ورد عنه وروي عنه أنه ترك القنوت في صلاة الصبح عندما صلى الفجر في... الأعظمية عند قبر أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه،
وقال: "الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة". أبو حنيفة لا يرى القنوت في صلاة الفجر، والشافعي يرى أن القنوت في الفجر سنة، وإذا نسيناها سجدنا، أي أنها شيء مؤكد، سنة مؤكدة تماماً، لكن عندما جاء ليصلي عند قبر أبي حنيفة عند قبر أبي حنيفة في العظمية ترك الهنود تأدباً مع ذلك الإمام الجليل، وهكذا كان حبهم بعضهم لبعض، فرضي الله عنهم وعما تركوه لنا من أدب عالٍ ومن علم غالٍ، ومن درر نعيش
في ظلال منهجها إلى يومنا هذا. قال أبو حنيفة: "لامستم نساء" يعني الجنابة، يعني اجتماع الرجل مع... زوجته والمرأة مع زوجها، في حين أنَّ الشافعي يقول لمس الرجل للمرأة ينتقض به وضوء كل واحد منهما، واللمس معناه مماسة البشرة للبشرة. أما الجماع ففي لغة القرآن هو المس، قال تعالى: "ولم يمسسني بشر ولم أكُ بغياً". سيدتنا مريم عليها
السلام "لم يمسسني بشر"، فمن أين سيأتي الولد؟ وقال... تعالى في شأن الظهار من قبل أن يتماسا، ولو كان اللمس كما ذهب إليه الإمام الأعظم لقال من قبل أن يتلامسا، أو "لم يمسسني بشر". فاللمس إذاً في لغة القرآن عند الإمام الشافعي يعني التقاء البشرتين، وهو يسبب الحدث الأصغر على سبيل المظنة وليس على سبيل المئنة، ولذلك قالوا والمظنة. قد تنزل منزلة المئنة ومنها النوم وهو أحد الأسباب
التي تنقض الوضوء على غير هيئة المتمكن. وإذا نام أحد قد يكون خرج منه شيء وهو نائم. قال: قد ظن يعني. وقد لا يكون. قال: نعم، قد يكون وقد لا يكون. قال: فما حكمه إذن؟ قال: يكون غير متوضئ. قال: الله هو متأكد أنه لم يخرج منه شيء، فقال له: "مع ذلك، فأنت غير متوضئ". فقال له: "لماذا هذا التعنت؟" فأجابه: "تنزيلاً للمذلة منزلة المائنة أصبحت قاعدة، حتى قال الشافعية المتأخرون: فلو أخبره معصوم لا يخطئ - يعني شخص لا يخطئ - فلو أخبره معصوم أنه لم يخرج
منه شيء، فإنه الوضوء ليس مسألة خروج أو عدم خروج، بل المسألة هي التعامل مع المنهج والقواعد المحددة من إنزال المظنة منزلة المانعة، أو قوله تعالى "أو لامستم النساء" وهي كلمة عامة. حسناً يا فضيلة الإمام الشافعي، هل عندما يلمس الشخص امرأة أجنبية عنه كزوجته مثلاً، ينتقض وضوؤه؟ قال: نعم. وهم قالوا: ينتقض. أخبروه قائلين: "حسناً، نريد أن نسأل أيضاً: أليست أمي من النساء، وابنتي من
النساء، وحفيدتي من النساء، وزوجة ابني من النساء، وأم زوجتي من النساء؟ فهل عندما أسلم على كل هؤلاء ينتقض وضوئي؟ أقبّل رأس أمي فينتقض وضوئي؟" قال: "لا، لا، ينتقض وضوؤك." فقلت له: "كيف ذلك؟" لست أفهم، يقول: أول ما استم النساء، والنساء هذه تكون عامة أم لا؟ قال: نعم عامة، فالألف واللام دخلت على الجمع، فتصبح عامة. قلت له: إذن أمي داخلة وعمتي وخالتي وابنتي؟ نعم، هن من عموم النساء. قال: لا، هذا في القاعدة، أنت لم تأخذها.
بالك منها التي يقول هكذا من؟ سيدنا الإمام الشافعي هو بعينه أم تلاميذه والفقهاء والمذهب؟ لا، المذهب ليس بالضرورة هو بذاته. قلت له: ما هي؟ قال: يجوز استنباط معنى من النص يخصصه، يجوز استنباط معنى من النص ثم هذا المعنى يخصصه هو نفسه. ياه! هذا هو الدين الإسلامي. هذا مبني على العقل، والعقل سيعمل لفهم النص لدرجة أنه سيضع
قواعد للفهم. هكذا كان السلف الصالح. الفرق بينهم وبين الشباب الذين يظهرون في العصر الجديد ماذا؟ هذه النقطة هي أنهم يقرؤون ويفهمونه كما هو، فيقرأ وهو غير منتبه إلى أن السلف الصالح كانت لديهم قواعد استنبطوها. من الفكر لأنه لا يفكر، بل يقرأ من هنا ويضعه هكذا، هو هنا نعم. لكن إذا ذهبت إلى الأزهر وتعلمت، سيقول لك الأستاذ: "يجوز استخلاص أو استنباط معنى من النص يخصصه، ولا يجوز استنباط معنى من النص يكر عليه
بالإبطال"، ثم يفهمك كيف تقف عند النص وكيف تفهمه. كيف تفعل ذلك، وسنشرح هذه القاعدة في حلقة قادمة إن شاء الله تعالى، ونرى الفرق بين من تعلم ومن تصدر قبل أن يتعلم. فإلى لقاء آخر، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.