سورة المائدة | حـ 897 | 7 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة المائدة، وربنا سبحانه وتعالى يقول: "واذكروا نعمت الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور". وهذا التعبير تعبير قرآني وهو من أعالي الكلام فكان هناك تراكيب فريدة
تفوق كلام العرب حتى إنك تجد في إعرابها إشكالاً لأنها تتجاوز كلام العرب. وعدّوا من هذا "وكفى بالله وكيلاً"، هذا التركيب العرب لا تعرفه، تسمعه فتنبهر به. ولكن "كفى" فعل ماضٍ، والباء حرف جر، ولفظ الجلالة تسلطت عليه الباء فجرته في اللفظ. هذا بالله وكفى بالله وكيلاً، يعني
حال كفاه حال كونه وكيلاً وحسيباً وحفيظاً. إذن أين الفاعل في "وكفى بالله وكيلاً"؟ من هو الفاعل لـ "كفى"؟ من الذي قام وصدر منه الكفاية؟ الله. إذاً لفظ الجلالة هو الفاعل. النحاس قال لك إن الباء - كما قالوا - من ناحية العمل زائدة لا زائدة في القرآن، فتكون "كفى الله وكيلا" أصل العبارة هكذا، ودخلت الباء فمنعت الضمة التي للفاعل وجعلتها
كسرة. وهكذا التركيز الذي يقوله النحاة: إن "كفى" فعل ماض، والباء زائدة، ولفظ الجلالة هو الفاعل، مُنع من ظهور الضمة عليه وظهرت الكسرة عوضاً عنها لانشغاله بحركة الجر من أثر الباء. الباب ووكيلة كذا، حسناً، كلام من هذا؟ كلام النحاس، كلام المفسرين الذين يحبون القرآن ويرون القرآن شيئاً عظيماً. النحاس وغيره خدموا القرآن وتعاملوا معه وجعلوه مصدراً، إلا أن لهم صناعتهم: أين الفعل؟ أين الفاعل؟ أين المفعول؟ أين الحال؟ أين التمييز؟ أين كذا؟ يريد أن يجيب حسب صنعته.
لكن المفسر وإن استعمل النحو، فليس كما يستعمله النحوي. فهو هنا وقال: "على فكرة، هذه العبارة من أعالي الكلام بحيث أنه لا إعراب له"، و"كفى بالله وكيلاً" هذا تركيب عجيب وعالٍ جداً لدرجة أن النحو إنما اختص بغالب اللغة ولم يختص بالعالي جداً من الكلام ككلام الله وتراكيبه العجيبة. الغريبة العالية ولا بما هو أدنى من أخطاء
الإعراب، أخطاء الإعراب عندما يتحدث شخص عربي أعرابي باللغة العربية ثم يخطئ أو يرتبك فيخطئ، فيكون النحو لا علاقة له بذلك. وقد وردت في اللغة العربية أشياء فيها هذا الخطأ. الأخطاء مثل "خرق الثوب المسمار"، بينما في الحقيقة الذي خرق الثوب هو ليس الثوب ونقول المسمار وليس المسمارة، لكن بهذا الشكل جعلنا الثوب هو الذي خرق المسمار. كما هو الذي اخترق، وتغير الثوب. قطعة القماش كانت سليمة، وبعد اختراق
المسمار فيها أصبحت فيها خرق. إذاً ما الذي تغير؟ الثوب، فيكون هو المفعول به. وما الذي ظل ثابتاً؟ المسمار، فقال لك والله. من بدايتها، لكنه ورد هكذا: "خَرَقَ الثوبُ المسمارَ". إن كل ما هو متلقٍ لك فأنت متلقٍ له، فما دام المسمار اصطدم بالثوب، فكأن الثوب أيضاً اصطدم بالمسمار. هذا كلام النحاس، لا بد أن يأتي بتبرير. حسناً، وبعد ذلك ماذا سنفعل؟ "مُكرَهٌ أخاك لا بطل"، كما ورد في المثل العربي. هكذا على العادة نقول مكره أخوك لا بطل (مبتدأ وخبر)، لكن "مكره أخاك". لماذا
هكذا؟ هكذا ورد، وبعد ذلك لنبحث فيما يبرر ذلك. والله هنا يقول تعبيراً عجيباً غريباً في العجب وفي العلوم أن الله عليم بذات الصدور، عليم بذات الصدور. هذا ما نسميه أنه... تعبير أنه تركيب متماسك ومعناه أن الله سبحانه وتعالى لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، في الظاهر ولا في الباطن، في الحقيقة ولا في نفس الأمر، في عقلك، في قلبك، في أفعالك التي يراها الناس والتي لا يراها أحد، يعلم السر وأخفى، يعلم السر وما.
تُخفي الصدور عليمٌ بخائنة الأعين، عليمٌ بما تفكر فيه، بل إنه أعلم بك منك، منكشفٌ له كل شيء، لا تخفى عليه خافية. يبقى إذاً الله غير قابل للمخادعة، والذي يخادع الله لا يرتكب فقط مخالفة شرعية دينية أخلاقية، بل إنه ناقص العقل، يعني الذي يخادع الله ليس فقط مرتكباً لذنب.
دعوية كهذه، هذا شخص مغفل لأن الله سبحانه وتعالى غير قابل للمخادعة، فهو يعلم نيتك ويعلم من أين جاءت ويعلم ما هو أخفى من ذلك من السر وسر السر في قلبك، وأنت منكشف أمامه، لا يغيب عنك ولا يغيب انكشافك أمامه في أي لحظة كانت ولو كانت كطرفة العين، بل أقل من ذلك فسوف تخدع على ماذا؟ وستخدع من؟ عندما هو يراك. فليس بعد قوله أنه عليم سبحانه وتعالى بذات الصدور
إلا أن تتأدب مع الله. تركيب عجيب يشمل كل ما ذكرناه، وهذا يؤدي إلى دعوة الإنسان للأدب مع الله. فإذا تأدبت مع الله فلا تخف ولا تحزن فأنت... في الطريق الصحيح، وإلى لقاء آخر، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.