سورة المائدة | حـ907 | 8 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

سورة المائدة | حـ907 | 8 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة - تفسير, سورة المائدة
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة المائدة يقول ربنا سبحانه وتعالى: "يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط". وشهداء جمع شهيد كعلماء جمع عليم وفقهاء جمع فقيه، وليست جمع شاهد. وشهيد صيغة مبالغة. تصلح للدلالة على اسم الفاعل وتصلح للدلالة على اسم المفعول كما ذكرنا ذلك مرات، فشهيد معناها شاهد أو مشهود أو شاهد ومشهود،
نعم. فهذه الصيغة مرة تُستعمل في اسم الفاعل ومرة تُستعمل في اسم المفعول ومرة تُستعمل لاسم الفاعل والمفعول معاً. شهيد، قتيل يعني مقتول فقط وليس قاتلاً ولا قاتل. ومقتول أبداً هي مفعول فقط، جبير يعني جابر اسم، ما هو الفاعل؟ لكنها لا تصلح أن تكون مجبور، لكن بديل يعني مبدِل ومبدَل وتصلح الاثنتان معاً، فإذاً هناك هذه الصيغة
غريبة قليلاً لأنها تصلح للدلالة على اسم الفاعل وحده أو للدلالة على اسم المفعول وحده أو للدلالة عليهما منفصلين أو. للدلالة عليهما مجتمعين، وشهيد من ضمن النوع الأخير هذا هو الذي يدل على اسم الفاعل واسم المفعول معًا. فإذا أمرني ربي بأن أكون شهيدًا، فقد أمرني بأن أكون شاهدًا ومشهودًا، شاهدًا على العصر ومشهودًا من العالم كله، شاهدًا ومشهودًا. إذًا أنا مكلف بأن
أظهر للناس حتى. أشاهدهم وأن أظهر للناس حتى يشاهدوني وكأن شهداء لله قد نهتنا عن الاعتزال والعزلة وكأن العزلة هي خلاف الأصل كأنها عملية جراحية نلجأ إليها عند الحاجة إليها لكن الأصل أن نكون حاضرين عالمين مطلعين متصلين بالعصر الواحد وأن نكون
شهوداً ومشاركين لبني الإنسان وإذا لم نفعل ذلك فقد قصرنا في أمر ربنا بشأننا في الانسحاب أو التجاهل أو الغياب وعدم المشاركة مصيبة، وكذلك أنني لا أُظهر نفسي للعالم كمثال صالح وأسوة حسنة مصيبة أخرى. هذه مصيبة الغياب عن الشاهدية، وهذه مصيبة الغياب عن المشهودية، والوقوع فيهما مصيبة بالغياب
عن الشهيدية. يبقى في شاهدية ومشهودية وشهيدية، أو أن ترتكب جريمة أولى جريمة. ثانيةً جريمةً ثالثةً للجمع بينهم، إما أن تقوم بتنفيذ الأمر الأول أو الثاني أو هما معاً، فتكون قد استكملت عبوديتك لله. لم يستعمل القرآن كلمة "الشهيد" بمعنى المجاهد في سبيل الله سبحانه وتعالى، وكل ما في القرآن من ذكر للشهيد إنما يتكلم عن شهادة الحضور، ولكن سمى رسول الله صلى الله عليه... وسلم
سيدنا وحبيبنا المجاهد في سبيل الله يُقتل في سبيل الله شهيداً وكأنه استعار شهادة الحضارة القرآنية لشهادة حضارة إنسانية يبين فيها أن من قُتل في سبيل الله إنما قُتل من أجل أن يكون للناس وجوداً في هذه الحياة شاهدين ومشهودين وأن يكون لهم مساهمة في هذه الحضارة وأنهم إنما يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وإنما يجعلون تصرفاتهم في سبيل الله، وأن الأمر قائم على التعمير لا التدمير، على إبقاء الحياة لا إزهاقها، ولذلك سُمي هؤلاء الذين قُتلوا في سبيل الله كما وصفهم
القرآن بأنهم أحياء عند ربهم يُرزقون، سماهم بما سماهم الله به أنهم أحياء وما زالوا كذلك. مفارقة الدنيا أحياء، والحياة هي التي أعطتهم لفظ الشهيد على لسان سيدنا صلى الله عليه وآله وسلم. فالشهادة القرآنية شهادة حضارية تحب الحياة والعلم والمشاركة والبناء والتعمير، تحب ما أحبه الله وتكره ما كرهه من سرف وفساد وطغيان. تحب هذه الحياة
وتفتح قلبها له، ولا يكون الشهيد شهيداً إلا بهذا. لأن الشهيد حَسَن العلاقة مع مخلوقات الله كلها، مع الإنسان والحيوان، بل وكل الأكوان. فالشهيد سيتعمق في عقل المسلم حتى يتبين له أن هذا الكون يسبح ويسجد، وأنه مسخرٌ بإذن الله له، فتعامله معه دائماً رفيقاً رقيقاً رحيماً عليماً، مبنيٌ على التعمير لا التدمير. شهادة لله، شهداء لله، فاللهم اجعلنا. من الشهداء لك يا أرحم الراحمين وإلى لقاء آخر نستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته