سورة المائدة | حـ913 | 11 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

سورة المائدة | حـ913 | 11 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة - تفسير, سورة المائدة
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة المائدة يقول ربنا سبحانه وتعالى: "يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم" وكما ذكرنا من قبل إن مراتب القصد البشري للفعل الإنساني خمسة كما نظمها الناظم فقال: "مراتب القصد خمس: هاجس ذكروا فخاطر فحديث النفس فاستمع يليه
هم فعزم كلها رفعت سوى الأخير ففيه الأخذ قد وقع". فمراتب القصد خمسة: هاجس، خاطر، حديث نفس، هم، نية أو عزم مؤكد. وذلك أن الإنسان إذا لاحظ علاقته وإرادته واختياره الذي... يسبق سلوكه لوجد أن صورة ما تحدث في الذهن، فإذا جاءت صورة ما في ذهنك ومرت مرور الكرام، وجاء في ذهنك شيء من
الطاعات أو شيء من المعاصي، كما لو جاءت في ذهنك صورة الكعبة، فجاءت هكذا ومرت ومضت، فهذا يسمونه هاجساً، أي هجس لك صورة الكعبة المشرفة، يمكن. أن تهجس لك زجاجة خمر هو هاجس أيضاً بأن زجاجة الخمر تأتي هكذا وتمر أمامك وتمضي دون أن يحدث شيء، كأنك تصورتها، كأنك تخيلتها فقط. حتى أن هذا التصور والتخيل يسمى إدراكاً، ولكنه إدراك على مستوى الهاجس لأن الصورة لم تثبت. فإذا
ثبتت قوياً نكون قد وصلنا إلى المرتبة الثانية الخاطر.. ففي الكعبة وقفت أمامك هكذا غير راضية أن تتزحزح، ولا أعرف ما هذه الحكاية. ماذا يعني هذا الأمر؟ لا أعرف. الكعبة أو زجاجة الخمر أيضاً ثبتت أمامك هكذا. إذن وصلنا إلى المرتبة الثانية وهي الخاطر، يقال لك "خطر ببالي"، أي جاء هكذا فجأة وخطر، خطر ببالي. فإذا تحدثت مع سألت نفسك عن هذه الصورة فقلت: "ما هذه العبارة؟ لماذا تأتي الكعبة إليّ؟ نحن نريد أن نسافر إلى الكعبة لنعتمر أو نحج". أو
قال هذا الآخر - بعيداً عن السامعين -: "ما هذه الخمرة؟ لماذا أتت؟ ربما أريد أن أشربها أو أكسرها". يعني من الوارد في الذهن أن يأخذ ويعطي بعضه في الكلام فقال: "والله كيف سأذهب أنا؟ الحج الآن أو العمرة هذه تحتاج إلى تأشيرة وتحتاج إلى تكاليف، وأنا لدي مواعيد وأنا مشغول هذه الأيام". "لا، ولكن العمرة أيضاً ستغسل الإنسان وتطهره، وأنا مشتاق". ما معنى أنه يتكلم بصوت منخفض؟ إذن وصلنا إلى المرحلة الثالثة: حديث النفس. ما هو في محادثة ذاهبة وآتية "نعم، لا، ولكن، نعم، ولكن، ربما، لا، يعني"،
التردد ما بين نعم ولا يكون هذا حديث نفسي. فإذا زاد على هذا وهممت وترجح لي الفعل يكون هذا ماذا؟ هممت، أو ترجح عندي عدم الفعل يكون قد هممت، بأن أذهب. أما إذا قررت وعزمت عزماً مؤكداً ذاهب خلاص واتصلت بالهاتف، بدأت العزم المؤكد الذي هو النية وأحضرت جواز السفر إلى السفارة لكي يأخذ التأشيرة، واتصلت بالشركة لكي نقطع التذكرة وبشركة السياحة لتحجز لنا في الفنادق. الله! لقد أصبحنا هنا، والشخص الذي يقابلني في الطريق
أقول له: أنا ذاهب لأعتمر إن شاء الله. ولكن حتى الآن ذهبنا ولا شيء، إنها كلها نية فقط، نية من قبيل العزم المؤكد، كذلك في المعصية. أشتري هذه الزجاجة والعياذ بالله، لا، دعني لا أفعل، هذه حرام. لا بأس، دعنا نتوب أولاً. لا، أستغفر الله. وبعد ذلك تأكد عندي الشراء والمعصية، فما هذا إذًا؟ إنها هذه هي النية يقول الناظم أن في شريعة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، شريعة الإسلام، فلا يؤاخذني الله سبحانه وتعالى بالهاجس ولا بالخاطر ولا بحديث
النفس ولا بالهم، إنما يؤاخذني بالنية. إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى. يبقى إذاً لو نويت ابتدأ عمل القلب، ما هي النية؟ عمل. والعمل هنا هو عمل. القلب يكون هو المؤاخَذ عليه، أما الهمّ وما قبله فلا مؤاخذة عليه في شريعة المسلمين تخفيفاً من ربنا ورحمةً. وكان في الأمم السابقة يُؤاخذون على الهمّ، فعندما كان أحدهم يهمّ بشيء كان يُؤاخذ عليه. فجاء الإسلام بالشريعة السمحة وترك الناس فيما ابتلوا
به حتى قالوا إن الخاطر يكون هو. الهاجس لم يتنزه عنه حتى كبار الأولياء أيضاً، فماذا يحدث؟ الهاجس والخاطر يحدث لهم ببساطة هكذا. وبعضهم قال ولا حتى النبي، وبعضهم قال لا، الأنبياء ربما لا تحدث لهم هذه الخواطر، وبعضهم قالوا حتى النبي؛ لأن هذا الهاجس والخاطر يحدث بمقتضى الطبيعة البشرية، والمسلمون يعتقدون أن الأنبياء بشر، فإذن يحدث الهاجس والخاطر بموجب أي شيء. البشرية ليس فيها نقص، ليس فيها نقص أن يحدث. طبيعة البشر هكذا،
طبيعة البشر النسيان، فهل ينسى نبي؟ نعم ينسى. طبيعة البشر المرض، فهل يمرض نبي؟ نعم يمرض. طبيعة البشر النوم، فهل ينام نبي؟ نعم ينام. حتى أن النبي المصطفى لبشريته كانت تنام عيناه ولا قلبه صلى الله عليه وسلم إنما كانت تنام عيناه وقال: "إلا أني أقوم وأنام". إذًا فدى من البشرية جماعة. الكفار أصبح همهم، فسنرى همهم كيف في حلقة قادمة إن شاء الله، بعد أن تحررت لنا مراتب القصد ذكروا هاجس، ذكر، فخاطر، فحديث النفس، فاستمع، يليه هم، فعزم، كلها رُفعت سوى.
الأخير الذي هو النية، ففيه الأخذ قد وقع، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
    سورة المائدة | حـ913 | 11 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة | نور الدين والدنيا