سورة المائدة | حـ915 | 11 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

سورة المائدة | حـ915 | 11 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة - تفسير, سورة المائدة
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة المائدة يقول ربنا سبحانه وتعالى: "واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون". وهذه كلمة جامعة ختم الله بها هذه الآية الشريفة "وعلى الله فليتوكل المؤمنون"، وهي ختام مطلق، فإن المؤمنين... مطالبون أبداً وفي كل وقت من أوقات حياتهم وفي كل حال من أحوالهم أن يتوكلوا على الله سبحانه وتعالى. قال العلماء:
والتوكل على الله أن تكون راضياً بسلطانه، راضياً بسلطانه، عاملاً بأوامره، راضياً بفضله. هذا هو التوكل. راضياً بسلطانه يعني ماذا؟ يعني أنت بشر وهو إله، يعني هو يفعل ما يشاء ويخطها يعني هو لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون، فعّال لما يريد. وأنت بشر مخلوق، الله يأمر وأنت تطيع.
فلما خلقك، وأمرك بالسبب، ولم يخلقك كجزء في آلة بلا اختيار. لقد خلقني ولي اختيار وتركني أفعل أو لا أفعل، وأمرني بالعمل. فأنا تحت سلطانه، أرضى بالعمل محبةً. إنْ أردتَ أن تأكل فلا بُدَّ أن تزرع. وإن أردتَ أن تسكت فلا بُدَّ أن تحرق الأرض، ولا بُدَّ أن تفتح القنوات، ولا بُدَّ أن تُدخل المياه لتروي الأرض، ولا بُدَّ أن تأتي بالبذور وتزرعها. إياك أن تفعل ذلك ولا تزرع بذوراً وتظن أن القمح سينبت
وحده. حسناً، وإذا وضعت القمح وتدّعي أنه يخرج ذرة، تكون غير خاضع لسلطان، ولا يكون هذا توكلاً. حسناً، يمكن ألا أضع البذور لا الخاصة بالقمح ولا الخاصة بالذرة، وأقول: يا رب أنبت ما تريد. هذا لا يصح، فلا تكن هكذا تحت سلطان، فلا يكون ذلك توكلاً. إن التوكل لا بد أن ترضى بأنك... تحت سلطانه، وهو سبحانه وتعالى قد نوّع فجعل بذرة القمح غير بذرة الذرة، وبذرة الذرة غير بذرة الأرز، وبذرة الأرز غير بذرة الفول، سبحانه وتعالى. فأنت لا تريد ذلك، أنت تريد أن تزرع فولاً فيخرج لك برسيماً، وهذا لن يجدي. هذا ليس توكلاً، بل هو
مخالف لسلطان الله. ثانياً لا عليك بالأسباب، فالنبي صلى الله عليه وسلم وهو سيد الخلق وهو حبيب الرحمن وهو مستجاب الدعاء، إذا أراد أن يخرج إلى أُحُد قال: فجمع بين درعين، لبس درعاً من الأمام وارتدى درعاً آخر من الخلف. لماذا هذا والله تعالى يقول له: "والله يعصمك من الناس"؟ هل يوجد أحد سيناله بسوء؟ أنت نبي، أنت المصطفى. افترض أنك لم ترتدِ [الملابس]، لن يقتلوك، لن يعرفوك، لن يعرفوا كيف يصلون إليك، لكن الله
سبحانه سلطان، وعلاوة على ذلك أوامره مختلفة. لقد أمرني بالتوكل وليس بترك الأسباب، ولذلك قرر العلماء وقالوا: إن ترك الأسباب جهل لأنه مخالف لسنة الأنبياء، والاعتماد عليها شرك. حيّرتمونا، هل نترك الأسباب أم لا نتركها؟ لا، تتركها. حسناً، أعتمد عليها إذاً؟ لا، تعتمد عليها. نعم، فإن فعل الأسباب غير الاعتماد عليها. تلقي الحبل ثم تدعو قائلاً: يا رب. هناك حديث: "لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير".
جميل هكذا، ولكن كيف يُرزق الطير سيدي يا رسول الله قال: "تغدو خماصاً وتروح بطاناً". تغدو يعني في الغدوة أي في الصباح خماصاً جائعة، فهي تخرج من أوكارها جائعة وتروح (ترجع) وهي شبعانة. "تغدو خماصاً وتروح بطاناً" أي بطن ممتلئ. قال العلماء: تغدو وتروح، ولو أراد الله أن يرزقها في أوكارها لفعل. هذا هو حق التوكل.
لا يمكن أن تجلس في البيت وتقول: "سأتعلم بمفردي"، لماذا؟ قال تعالى: "واتقوا الله ويعلمكم الله". هذا لا يجدي، لن يفتح الله عليك أبداً. لا بد أن تخرج لتشتري الكتاب، وتذهب إلى الأستاذ في المدرسة أو في الكلية، وتمتحن وتنجح وتخفق وتعيد المحاولة مرة أخرى. عليك أن تكافح في الحياة، التوكل يكون عندما يجب أن تكون راضياً بسلطان الله، ويجب عليك أن تجتهد في العمل. الاجتهاد في العمل يعني أن تبدأ العمل، ويجب عليك أن تكون تحت أمر الله حتى تكون من المتوكلين. فإذا لم تفعل فأنت من المتواكلين. ولذلك ورد في الحديث، وإن كان فيه كلام،
أن أحدهم قال. يا رسول الله، أأترك دابتي خارج المسجد؟ أأعقلها وأربطها بالحبل أم أدعها؟ أأعقلها وأتوكل أم أدعها وأتوكل؟ قال: "اعقلها وتوكل". إذن التوكل ليس ضد العمل، بل نعمل ثم لا نعتمد على هذا العمل، بل ندعو ربنا أن يوفقنا إلى ما فيه رضاه، ولذلك نتعجب من أولئك الذين يعتقدون أن التوكل... ترك العمل ليس هو التوكل. لم يكن ترك العمل أبدًا [هو التوكل]. وأولئك الذين يعتقدون في أنفسهم الحول والقوة وأن
العمل وحده يكفي، لم يكن العمل وحده يكفي أبدًا. لا بد مع العمل من تعلق القلب بالله، لا بد مع العمل من الدعاء، لا بد مع العمل من أن نمد ورضاك، ولذلك كما ذكرنا في حلقة سابقة، إذا حلّ الوباء في العالم فلا بد علينا أن نتخذ كل الاحترازات توكلاً على الله ثم ندعو. فأخونا لا يريدنا أن ندعو، يصد نفسه عن الله. هل سنتركه هكذا؟ ألن ندعو ربنا؟ افترض أنه جاءت المصيبة، لا تدعه يقول لك إن الدعاء لا بحاجة لا لأي سبب له،
والدعاء يرد القضاء، الدعاء يرد القضاء. فالدعاء يصدر من الأرض وينزل القضاء فيحتل مكاناً، فيغلب الدعاء القضاء فيرفعه ويرفع الله البلاء. لكن كل هذا مع ماذا؟ مع التحرز، مع العمل، مع التوكل الحقيقي. ولذلك علينا أن نتوكل على الله بالعمل وبالأمل، بالفعل وبالدعاء، علينا أن... نتوكل على الله وأن تتعلق قلوبنا بالله، ولذلك ندعو تاركين من يسخر في هامش التاريخ. يا
خفي الألطاف نجنا مما نخاف. وإلى لقاء آخر، نستودعكم الله. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.