سورة المائدة | حـ921 | 13 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة المائدة، ونحن نتأمل كلام ربنا ونحاول أن نجعله هداية لنا في طريقنا إليه سبحانه وتعالى. فنتدبر القرآن الكريم ونقف عند حروفه وكلماته ونظمه وجمله ونتفكر عسى أن نلتقط دُرره. وجواهره فهو كنز لا تنتهي عجائبه ولا يخلق من كثرة الرد، لكننا ينبغي أن نقرأه بطريقة
أخرى غير الطريقة التي تعودنا أن نقرأ بها أي كلام بشري أو أي كتاب آخر. إنها طريقة التدبر والتفكر والتقاط الجواهر وتداعي الأفكار حتى نفهم بعمق مراد الله سبحانه وتعالى من كلامه. يقول ربنا سبحانه وتعالى في شأن بني إسرائيل وهو يحكي عنهم تلك التجربة التاريخية التي خاضوها مع موسى في شأن تطبيق الدين في الحياة، وهو ما أشار إليه موسى وهو يكلم رسول الله
صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء ويقول له: "إني قد ابتُليت بالناس من قبلك، فاسأل ربك التخفيف". ابتُليت بالناس. الذين هم بنو إسرائيل من قبلك أتعبوا سيدنا موسى أشد التعب، فقد اتخذوا العجل بمجرد غيابه، ذهب فقط ليعبد ربنا لمدة أربعين يوماً، ثم رجع فوجدهم قد اتخذوا العجل، "فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية". فما النتيجة؟
"يحرفون الكلم عن مواضعه". فأول شيء هي الخيانة في النقل، الخيانة في... النقل: يحرفون الكلمة عن مواضعها. التحريف يشتمل على صور كثيرة، فمنه التقديم ومنه التأخير ومنه الزيادة ومنه النقصان ومنه التبديل ومنه
الحذف. صور كثيرة للتحريف، وهنا يتكلم عن نوع من أنواع هذا التحريف: "يحرفون الكلمة عن مواضعها". يُزيل آية من مكانها ويضعها في موضع آخر، فيختل السباق واللحاق والسياق يختل. لماذا تفعل هكذا؟ قال: والله أنا فعلت هكذا لأخفي عن أعدائنا هذا المعنى. الله! كأنه حريص جداً على
الدين. إنما الشيطان عندما يدخل يجعلك تفعل الشيء صورته حسنة وحقيقته قبيحة. سدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المعنى فقال: من كذب علي متعمداً. "فليتبوأ مقعده من النار" هذا الحديث من الأحاديث النادرة المتواترة، ليس واحداً فقط الذي رواه، ولا عشرين ولا ثلاثين صحابياً، بل هو عدد كبير جداً. ماذا يقول؟ "من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار". فجاء بعض الناس
استهانوا بالعلم وأرادوا أن يكذبوا على رسول الله صلى الله عليه. وعظ بموعظة حسنة، أي يؤلف كلاماً يبدو كأنه موعظة حسنة، لكنه يضيف إليها ويقول لك ماذا قال رسول الله، حتى تنتبه قليلاً وتهتم وتأخذ الكلام مباشرةً. فقالوا له: لماذا تفعلون ذلك؟ ألم يحذركم رسول الله من أن تكذبوا عليه؟ فقالوا: نحن نكذب لرسول الله. أنكذب لرسول الله ولا نكذب على رسول الله، فهؤلاء زنادقة وإن
حسنت نيتهم. ولذلك رأينا المسلمين يؤلفون أكثر من عشرين علماً لحفظ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والدفاع عنها: علم الجرح والتعديل، علم الدراية، علم الرواية، علم المصطلح، علم الرجال، لكي يضبطوها بدقة. ولذلك يحمل هذا العلم من خلفٌ عدولُه يصدّون عنه تحريف تأويل الغالين وتحريف المفسدين، يحمل هذا العلم من كل خلفٍ عدولُه. النبي
يقول هكذا صلى الله عليه وسلم. وفّق الله المسلمين من غير حولٍ منهم ولا قوة، ووفقهم لئلا يقعوا في خيانة النقل، فلا الكلم الكلمة عن مواضعها. فوصل إلينا القرآن غضًا طريًا وكأنه نزل بالأمس كان يحفظه الكبير والصغير والرجل والمرأة والعربي والأعجمي بطريقة عجيبة غريبة، وإذا أخطأ إمام من الأئمة الكبار وهو في الصلاة ردُّوه. مَن الذي ردَّه؟ حتى الطفلة الصغيرة هكذا. لا يوجد الآن
شيء، لا يوجد شيء اسمه "أنا رأيي هكذا" أو "أنا الشيخ الكبير". لا يوجد شيخ كبير. ولا شيخ صغير يقول لك القرآن غالب لا مغلوب: "فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه". هذه أول مصيبة. ثاني مصيبة: بعدما حرفوا النقل حرفوا العقل "ونسوا حظًا مما ذُكّروا به"، فأصبح التحريف يشمل النقل والعقل. كيف حرفوا العقل؟ إلى لقاء آخر نذكر فيه كيف. حرّفوا العقل وكيف ينجينا الله سبحانه وتعالى
من هذا التحريف والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته