سورة المائدة | حـ922 | 13 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة المائدة يذكر لنا ربنا سبحانه وتعالى فعل بني إسرائيل مع دينهم وأنهم في الماضي قد انحرفوا عن الصراط المستقيم، وحذرنا ربنا أن نكون مثلهم، ومنّ علينا بكرمه فحفظ علينا. كتابة من غير حولٍ منا ولا قوة، بل بمنَّةٍ منه علينا. نشكره آناء الليل وأطراف النهار لعله يرضى. ﴿إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون﴾. وحفظها يقول ربنا سبحانه
وتعالى بعد أن بيَّن لنا كيف خانوا النقل، أنهم خانوا العقل. قال تعالى: ﴿يحرفون الكلم عن مواضعه﴾، هذه هي خيانة النقل. ونسوا حظاً مما ذُكِّروا به، هذه هي خيانة العقل مع وجود النص، مع وجود النص صريحاً أمامهم، يلجؤون إلى التأويل ويحرِّفون في هذا التأويل. لا بد أن يكون منضبطاً بضوابط، أول هذه الضوابط الدلالات اللغوية، فربنا سبحانه وتعالى
أنزل القرآن الكريم بلغة العرب، فمن خرج عن لغة العرب وفسَّر... القرآن الكريم بغير لغة العرب فإنه يكون قد انحرف بالتأويل وخان العقل، ومن أصول التأويل التي لا تجعل القرآن الكريم ولا السنة النبوية المشرفة يضرب بعضها بعضاً، فتُفسَّر تفسيراً يخالف نص القرآن أو يخالف نص السنة، أو يُفسَّر الحديث بطريقة تعود على القرآن بالبطلان، بل
لا بد علينا من مراعاة. المصادر حتى لا نقع في خيانة العقل، ولا بد علينا ثالثاً أن نقف مع ما ألقى الله في قلوب الأمة جميعاً معنى الآية. فلا بد علينا من أن نعتمد وأن نعتبر الإجماع، ولا يجوز علينا أن نخالف الأمة كلها بأي دعوة من الدعاوى، ولا
بد علينا عند التأويل والتفسير والشرح. والإيضاح والاستنباط أن نراعي المقاصد الكلية للشريعة بل ولكل شريعة قد أنزلها الله سبحانه وتعالى فلا نأتي بشيء يكر على مقاصد الشريعة بالبطلان. فمقاصد الشريعة أن نحفظ النفس التي حرم الله إلا بالحق، مقاصد الشريعة أن نحفظ على الإنسان عقله سواء كان عقل الفرد أو عقل الأمة بل وعقل البشرية. من مقاصد الشريعة أن نحافظ على الدين الذي نعبد به ربنا،
"وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون". ومن مقاصد الشريعة أيضاً أن نحافظ على كرامة الإنسان، ولا يمكن بعد أن قال الله تعالى: "ولقد كرمنا بني آدم" أن نهين هذا الإنسان، وأن نعذبه، وأن نجعله غير حر في هذه الأرض بمَ استعبدتم الناس وقد جعلهم الله أو خلقهم الله أحراراً؟ ما مقصد الشريعة إلا أن نحافظ على فكرة الملك لأن الله سبحانه وتعالى جعل لنا ملكاً. كل ذلك لا يأتي إلا بالعدل، كل ذلك لا يأتي إلا بالرحمة، كل ذلك لا يأتي
إلا بالخلق الكريم بالصبر، كل ذلك لا يأتي بالالتزام بالشريعة المكرمة، ولا يجوز إطلاقاً أن نستنبط حكماً من القرآن أو من السنة المشرفة يعود على مقاصد الشريعة بالإبطال. إذاً، فهذه هي ضوابط التأويل: أن يكون موافقاً للغة العربية لأن الله أنزل كتابه بها، وأن يكون موافقاً للمصادر التي جعلها الله حجة، وأن يكون موافقاً للإجماع، فإن إجماع هذه معصوم
وحجة وأن يكون موافقاً للمقاصد فلا يكر عليها بالبطلان، وخامسها أن يحقق المصلحة التي جعل الله شرعه محققاً لها. ربنا جعل شرعه يحقق المصالح، ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى جعل هذا قانون التأويل بحيث إذا خرجنا عنه نكون قد أخللنا بعقولنا، والحمد لله راعى أهل السنة والجماعة هذا. وهم جماهير الأمة وانضبطوا في التأويل وفي
التفسير وفي الاستنباط ووضعوا لذلك العلوم وتكلموا في هذا بالدقة المتناهية وربوا أنفسهم على هذا ولم يخرجوا عن هذا قيد أنملة حتى إذا ما كنا في آخر الزمان في زماننا هذا والله سبحانه وتعالى قد أنزل علينا البلاء فنسأله أن يُسكِّن قلوبنا وأن ينزلُ علينا الصبرُ، فيخرجُ كلُ مُدَّعٍ ومنافقٍ يدَّعي التأويلَ ويُقدمُ نفسَه مُجدداً لدينِ الله، ويهدمُ تلك الأركانَ الخمسة، ليسَ هدمُ واحدةٍ ولا اثنتين، ولا أقولُ ثلاثًا، بل لنقُل أربعة،
إنما يهدمُ الخمسةَ كلها. وبدأ بعضُهم في الشرقِ والغربِ يذهبُ هنا وهناك بدعوى حريةِ الفكرِ وحريةِ الرأي، وإن خرجت عن العلمِ في خيانة العقل وإن كَرَّت على الشريعة بالبطلان فإنهم يدعون إلى هدم هذه الخمسة، فترى منهم من أباح ترك الصلاة، وترى منهم من أباح الزنا، وترى منهم من أباح عورة النساء والرجال، وترى منهم من ترك الصيام، وترى منهم وترى منهم وترى منهم في
بلاء لم يشهده العالم الإسلامي بهذا. الاتساع حتى اتسع الخرق على الراقع مثل ما يحدث في هذه الأيام، فكن أيها المسلم في جانب العلم ولا تكن في جانب الهوى والضلالة، كن أيها المسلم واثقاً من نفسك ومن ربك، متمسكاً بأدوات واضحة، قل له مباشرة وهو ليس من العلماء على كل حال، والحمد لله الذي حفظ هذه. الأمة في علمائها وفي المتخصصين الذين أفنوا أعمارهم
لدراسة سنة رسول الله ولتفسير كتاب الله، قل له: "احفظ اللغة"، قل له: "هذا فقط"، قل له هكذا فقط، ستجد أنه انكشف أمامك بوضوح كالفول، قل له: "أنت تخالف اللغة هكذا"، قل له: "المقاصد"، قل له: "المصالح"، قل له: "الإجماع"، قل له. المصادر احفظ الخمسة هذه: اللغة والمصادر والإجماع والمقاصد والمصالح، وقل لي "إنا لله وإنا إليه راجعون". خنت العقل بعد أن حرفت النقل. وإلى لقاء آخر، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.