سورة المائدة | حـ924 | 14 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة المائدة يقول ربنا سبحانه وتعالى: "ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظاً مما ذُكِّروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون هنا في هذه الآية، يكرر علينا ربنا سبحانه وتعالى وصف الإنصاف، وأنه يجب عليك أن تكون منصفاً وأن تشرح الواقع كما هو، لا تزيد
عنه ولا تنقص منه. فقال: "ومن الذين" ولم يقل: "إن الذين قالوا إنا نصارى" مثلاً. لا، ليسوا سواء. نظرة عجيبة، ليسوا كلهم واحداً، نحن لا ننعي أحداً في ذاته، نحن ننعي على الصفات. نحن لا نحب الكذب ولا التحريف، ولا نحب الخيانة في النقل ولا في العقل. نحن لا نحب الظلم وعدم الإنصاف، ولا نحب النزاع والخصام والعداوة التي تكون بين الناس. نحن ننتقد
وننقض الصفات الذميمة، وليس لنا موقف مسبق من جماعات وطوائف. من البشر ولا بمذاهبهم الدينية ولا الأخلاقية، إنما نحن ضد الصفات، نتكلم عن الصفات. ولذلك دائماً يعلمنا ربنا ذلك الإنصاف والعلو في ذلك الإنصاف. "ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظاً مما ذُكِّروا به". هذا الذي ننعيه على الناس، إذا وثقت ربك وعاهدته فالتزم، وإذا خالفته ونقضت ميثاقه. فأنت مخطئ، بل إنك في لعنة الله وغضبه.
لا أعرف الذي بينك أنت يا مشخص وبين الله الذي أعرفه. إنك ينبغي عليك أن لا تنقض ميثاق الله. فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة، فنرى فرقاً، كل فريق منهم يكفر أخاه ويخرجه من الملة ولا يتزوج منه ويسير في طريق. غير الطريق الآخر كأديان منفصلة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون. إذاً، الحكم ليس في الدنيا بل الحكم في الآخرة، والحكم
عنده سبحانه في الآخرة، سيُنبئهم يوم القيامة بما كانوا يصنعون. كل واحد سيُحاسب بحسب نيته، وسنرى مَن النية التي كانت تريد أن تبث في الناس الكراهية. وفتنة ومن الذي كان يريد أن يبث في الناس محبة ورحمة سينبئنا ربنا يوم القيامة، ربما في الدنيا عندما نخبر بذلك نُتهم أو يكثر الجدال أو يخفى الأمر على بعضهم، إنما يوم القيامة البينة واضحة، يوم القيامة إنما هو لصاحبه
مالك يوم الدين، ولذلك فموعدنا يوم القيامة، حسناً وفي الدنيا هي عبرة وعظة، قال تعالى: "فاعتبروا يا أولي الأبصار" بعد أن حكى حكايتهم. قال: "فاعتبروا يا أولي الأبصار"، أي قيسوا حالكم على حالهم واتعظوا وتعلموا من هذه التجربة التاريخية، "ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظاً مما ذُكّروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة". الإغراء
مركب من أمور فيه جاذبية ولكن فيه فتنة، فهو مركب من الجاذبية والفتنة، يعني من الفتنة الجاذبة. شيء فيه إغراء يكون فيه انجذاب، أريد أن أرى ما هذا. إغراء... أغراني يقال: أغراه بالمال، أغراه بالسلطة، أغراه بأي دافع من الدوافع. هكذا فالعداوة أصبحت في صورة مغرية - الفتنة. أصبحت في صورة جذابة تجذب
إليها الناس هؤلاء، وأصبح كل شخص يعتقد في نفسه أنه على الصواب. لقد أغريناها، أي جعلناها مغرية لكل فريق منهم، فكل واحد يظن أنه هو على الصواب. أُمرنا ألا نفترق، فإذا افترقنا واتبعنا هؤلاء في تجربتهم السلبية في التاريخ، ينزل بنا ويحل بنا ما حل لأننا من عباد الله ومن تكليف الله سبحانه وتعالى، ولذلك فلا بد أن نمتثل لأمر ربنا: "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا". وتصبح
الفرقة أمراً مرفوضاً، أمراً ذميماً، أمراً مردوداً على صاحبه، حتى لو كان في الفرقة إغراء؛ لأن الفرقة دائماً سوف تُغلف بالإغراء اختباراً وليس بياناً لحقيقتها، فالفرقة مؤذية. ولذلك ندعو إلى وحدة الأمة وإلى أن الله الذي منّ علينا بقبلة واحدة وبقرآن واحد وبنبي واحد نزوره صلى الله عليه وسلم في قبره ومسجده، وبشهر للصيام لم تختلف فيه الأمة، ونستطيع أن نعدد أيضاً بربٍ واحد وبحج واحد
وبيوم عرفة واحد، الله هذه أمة واحدة فعلاً، ولذلك ننعي مَن أراد الفرقة، وكلما أرادوا الفرقة كلما تجاوزنا البلاء، ويدعوننا مرة أخرى إلى الاجتماع. كلما رأينا أن الفرقة فيها إغراء، اجتمعت الأمة على أنه ينبغي علينا أن نوحد صفوفنا، وأن نمتثل لأمر ربنا، وأن نصبر على هذا الإغراء الكاذب، وأن نعود مرة أخرى أمة واحدة كما أرادنا ربنا. حسناً، فماذا هذا لا نكفره ولا شيء، بل نصبر قليلاً، ونوسع صدورنا كما أُمرنا، نخطّئه ولكن
سعياً لوحدة الأمة والتفافاً حول كعبتها، وعملاً بغرض صلاتها إليها، حتى نكون محل نظر الله سبحانه وتعالى. وإلى لقاء آخر، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.