سورة المائدة | حـ926 | 15 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ الحمدُ للهِ والصلاةُ والسلامُ على سيدِنا رسولِ اللهِ وآلِهِ وصحبِهِ ومن والاهُ معَ كتابِ اللهِ وفي سورةِ المائدةِ يقولُ ربُّنا سبحانَهُ وتعالى وهو يُعلِّمُنا الدعوةَ إليهِ بنسقٍ مفتوحٍ نُخاطِبُ فيهِ العالَمينَ المؤمنينَ وغيرَ المؤمنينَ يا أهلَ الكتابِ قد جاءَكُم رسولُنا إذًا فبعثةُ النبيِ صلى اللهُ عليهِ وسلم عامة وليست خاصة بالعرب ولا خاصة بالمشركين ولا الوثنيين ولا هي خاصة بزمنه صلى الله عليه وسلم، بل إنه قد أُرسل للإنس وللجن
لسائر المكلفين، وأُرسل للعرب وللعجم، وأُرسل للحاضر والمستقبل، بل إن رحمته صلى الله عليه وسلم تنال الماضين، قال تعالى: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، فدخل في العالمين الماضي والحاضر والمستقبل، ويظهر هذا في شفاعته العظمى يوم القيامة، فإنه يشفع للعالم كله ابتداءً من آدم وانتهاءً بمن تقوم عليه الساعة، فيشعر الجميع خاصة أولئك الذين أساؤوا إليه وقلّوا الأدب معه فضل رسول الله صلى
الله عليه وسلم عليهم، حيث إنه يتشفع عند ربه فيقل وقت الحساب فينال. كل إنسان مهما كان، الرحمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد ولد عدنان. يا أهل الكتاب قد جاءكم. قالوا إن "قد" لو دخلت على الفعل الماضي تفيد التحقيق، ولو دخلت على الفعل المضارع تفيد الاحتمال غالباً. هل أنت منتبه؟ غالباً، لأنها قد تدخل على الفعل المضارع وتفيد التحقيق. أيضاً "قَدْ جَاءَكُمْ قَدْ جَاءَكُمْ" هذه تفيد التحقيق، فيكون
المجيء هنا محققاً أنه سيخاطب أهل الكتاب. لا يأتي أهل الكتاب ويقولون: "لا، عندنا كتابنا ونحن مكتفون، اتركونا في حالنا لأننا نكتفي بكتابنا". نقول لهم: أبداً، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أُرسل إليكم وإلى العالمين جميعاً. وإليكم وإلى العالمين وليس معكم حجة أنكم في القرب، نعم تؤمنون بالله، نعم تؤمنون باليوم الآخر، نعم تؤمنون بالوحي والتكليف، نعم تؤمنون بالكتاب وبالشرع، نعم كل هذا صحيح، لكن لا ينفع أن تقول أن هذا يكفي، لا يكفي، لا
بد عليك أن تستمع لماذا قال لأن هذا الكتاب الأخير هو المنهج الذي يناسب الإنسان إلى يوم الدين هو المنهج الذي يمكن أن تفهم من خلاله ما معك من الكتاب المبين فهماً يرضى عنه الله، فهماً يحقق مراد الله من خلقه. يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا، لماذا؟ فسيسأل ويقول: حسناً، ولماذا جاءني؟ ألست أملك كتابي والحمد لله؟ يبين لكم. كثيراً مما كنتم تُخفون
إخفاءً حسياً ظاهرياً مثل الجماعة الصابئة الذين كانوا يُخفون كتابهم، أو إخفاءً بتأويلات أو إخفاءً بفهم خاطئ، فهذا كله تغيير لمراد الله. فجاء يُبين لكم، فيكون فهم هدف الرسول هو البيان، كان قرآناً يسير على الأرض، وهدف القرآن هو البيان، فالقرآن نبي مقيم والنبي قرآن. يمشي على الأرض يُبيِّن لكم كثيرًا، الله ليس كله، قال: لا، ليس سيُبيّن لكم كل ما تُخفونه أبدًا، هذا سيُبيّن
لكم كثيرًا فقط. طيب، والباقي؟ قال: يقوم به علماء أمته، العلماء ورثة الأنبياء. طيب، وما فائدة هذا؟ فائدته أن يستمر القرآن الكريم معجزًا يظهر ويبين إلى يوم. الدين ليس مُبيَّناً وانتهى الأمر، بل إنه سيظل يُبيَّن ويُبيَّن ويُبيَّن مرة أخرى ويُبيَّن مرة أخرى ويُبيَّن مرة أخرى بما لا نهاية في البيان منه. ولذلك الذين درسوا الجدل الديني عبر القرون
يلحظون هذا ويعلمونه، أن هذا الكتاب يكشف كثيراً من الأمر، وكل عصر يأتي فيه العلماء بما لم يلتفت إليه السابقون. كيف هذا؟ يعني السابقون هؤلاء لم يكونوا منتبهين أبداً، هذه طبيعة الأمور هكذا، ثم في كل عصر نكتشف ومخطوطات مخطوطات الجنازاه في القاهرة، وماهية مخطوطات نجع حمادي، وماهية مخطوطات لا أعرف أين وأين في العالم، فيتبين لنا دقة القرآن وإعجاز القرآن وبيان القرآن وتوضيح القرآن، ويتبين لنا فعلاً أنه يُبيِّن كثيراً وما زال
البيان مستمراً. انتبه جيداً، لو تأملنا في كل هذه المخطوطات التي كانت تحت الأرض حينما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم لكان ذلك شيئاً مبهراً، والدراسات صدرت في مجلدات طويلة عريضة. هل كان محمد يعلم كل هذه اللغات بكل هذه اللهجات بكل هذه الخطوط العجيبة؟ التي كتبت بها تلك المخطوطات التي لا يزال العلماء حائرين في فك كثير منها، كيف هذا وهو الأمي وكانت أميته معجزة في حقه؟ لأنه إنما رباه ربه وعلمه علام
الغيوب سبحانه وتعالى. يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب. لا ينبغي لأحد أن يأخذ. ما هذا الكلام عن نفسه لأنه يخاطب مَن؟ كل الناس أصحاب ماذا؟ أصحاب الكتب كلها. لا أحد يغضب، واعفوا عن كثير. سيترك كثيراً، يترك كثيراً، أما تخفيفاً من ربنا. فكرة أخرى: هذا لا يخالف ناموس موسى، هذا يؤيد ناموس موسى. الناموس الخاص بموسى، سيدنا محمد لا يخالفه، بل إن سيدنا محمد يوضحه. يبينه
كما أن سيدنا عيسى جاء وأحل أشياءً كانت حراماً على اليهود وحرم أشياءً كانت حلالاً عليهم، فإن محمداً صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك على سنة الأنبياء وسنة الله في كونه. وإلى لقاء آخر، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.