سورة المائدة | حـ930 | 16 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

سورة المائدة | حـ930 | 16 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة - تفسير, سورة المائدة
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة المائدة يقول ربنا سبحانه وتعالى: "قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط". مستقيم وفي هذه الآية إجابة على الحيرة التي اكتنفت العالم كله وهم يرون المسلمين يتمسكون بدينهم ولا يحيدون عنه ويزداد الإسلام بالرغم من أنه تحت الهجوم منذ
أن جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى يوم الناس هذا، فعندما ظهر آذوه واشتدوا في الأذية، قاطعوه هو وأهله في مكة. سلَّطوا عليه الصبيان يضربونه بالحجارة حتى دَمِيَت قدماه الشريفتان، أخرجوه من ديارهم حتى نظر إلى مكة وهو يقول: "والله إنك لأحب أهل أرض الله إلي، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت". وجعلوا صحابته يهاجرون إلى الحبشة، وبعضهم يهاجرون إلى المدينة، وبعضهم يلوذون بقبائل العرب، حتى أخرجوه وهددوه
وكانوا في... ليلة الهجرة أرادوا قتله، وسافر إلى المدينة المنورة التي نوّرها الله ببقائه فيها. وهناك لم يتركوه، بل إنهم هاجموه في بدر، وبدر هذه بجوار المدينة، وفي أُحد، وأُحد هذه في المدينة، وفي غزوة سمّوها الخندق، والخندق هذا حول المدينة. فهو في مكانه يُضرب من كل مكان، حتى أنهم اتفقوا مع اليهود. في خيبر أن يصنعوا ما يسمى في العسكرية بالكماشة خيبر
من الشمال ومكة من الجنوب يهجمون على المدينة في وقت واحد فلا يستطيع المسلمون أن يصدوا عن أنفسهم وأدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الاتفاقات الدولية التي مآلها القضاء على الإسلام والمسلمين كشأن ما حدث بعد ذلك في فارس والروم وما حدث بعد ذلك بين التتار والصليبيين وما حدث بعد ذلك في كل أماكن في الأرض في البوسنة وفي العراق وفي الشيشان وفي أفغانستان وإلى يوم الناس هذا تدابير وتصفية جسدية ضد هذا الإسلام وضد هذا
النبي ثم إن المسلمين يزدادون في العدد ويدخل كل يوم وكل سنة. يدخل كل يوم وكل سنة مئات بل آلاف في دين الله أفواجًا من غير حول من المسلمين ولا قوة ولا دعوة ولا مثال صالح، بل هي هداية ربي عند فقد المربي النبي صلى الله عليه وسلم في مكانه يدافع عن نفسه، فحوّلوه إلى أنه يقاتل ويقتل وكذب، والسؤال أين أحد؟ أين بدر وأحد والخندق؟ أين هذه الأمانات؟ وعندما رأى ذلك الاتفاق الكماشة فإنه
نزل في الحديبية يريد العمرة فمنعوه بغباء سياسي بتحزب عنصري بصد عن بيت الله سبحانه وتعالى وعن ذلك الإنسان الذي كملت فيه كل المعاني. أزمة السياسة في العالم كله المبادئ والمصالح، فالسياسي في بعض الأحيان يتخلى عن... مبادئه من أجل مصالحه، وفي بعض الأحيان وهي قليلة يتخلى عن مصالحه من أجل مبادئه، وحينئذ يُتهم بالغباء السياسي.
ليس هناك من عالج السياسة إلا وقد وقع في هذا الإشكال، الحيرة والتوازن بين المبادئ والمصالح، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يتخلَّ عن مبدأ قط ولم يتخلَّ عن مصلحة قط وفقه الله لأن يعلم البشرية كيف تحافظ على مبادئها مع الحفاظ على مصالحها فكان هذا النموذج الفريد الذي لم يعرف في التاريخ لا بعده ولا قبله والذي جهل الناس كيف يستفيدون منه وتكبر بعض الخلق أن يستفيد من هذا النبي المصطفى فظل بين الحيرة والتوازن
بين المبادئ والمصالح نزل في الحديبية فمنعوه واتفق معهم على معاهدة السلام ينحي فيها جزء مكة واضطروا اضطراراً إلى هذه المعاهدة، وبعض الصحابة لا يدرك هذا ويريد أن يعتمر: "لم نقبل الدنية يا رسول الله في ديننا، هيا بنا نقاتل". "لا أريد أن أقاتل، أريد أن أفك الكماشة". فاحتواهم واتفق معهم، وعندما صعد. إلى المدينة ذهب إلى خيبر ليفتحها فذهب وفتح فانفتح من الشمال، وعندما نقض المشركون العهود ولم ينقض هو، أبت
تجديد المعاهدة، فلم يخرج عن المبادئ ولم يقبل بتسليم المصالح للعدو، ثم نزل ففتح مكة. فاللهم صل وسلم علينا، نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه، فالقضية هي قضية. الإيمان بالله إذا آمنت أيها الإنسان بالله واتبعت رضوان الله واتخذت هذا النبي هادياً لك واتخذته مثالاً تدرسه وتستفيد منه، فإن الله سوف يوفقك سبل السلام. وسبل السلام
سوف ترى فيها يا قائد الجيوش، أيها المفاوض السياسي، أيها المشتغل بالسياسة علماً وعملاً، أيها المشتغل بالقيادة، سوف تشعر وتفهم حينئذٍ ما... لم تفهمه من القرآن من قبل وسوف تفهم معنى سبل السلام. سبل السلام هي الطريق الذي يؤدي إلى السلام النفسي والتوازن الداخلي لأنك لم تفرط في مبدأ ولم تترك مصلحة، فتنام في نهاية المقام قرير البال مرتاحاً
لأنك خدمت ناسك ووطنك وقضيتك، ولم يحدث هذا الشرخ الذي كثيراً ما نراه في مذكرات السياسيين بعد استقالتهم من السياسة في النزاع بين المبادئ وبين المصالح. "سبل السلام" اسم كتاب، استعار هذا الكلام من الآية واقتبسها الصنعاني، "سبل السلام شرح بلوغ المرام". فعندما يبحث المرء عن "سبل السلام" يظن أنها شيء سهل، لكن ليست شيئاً سهلاً، بل هي توازن. في القيادة إذا أردت أن تكون ممن رضي الله عنه وإلى لقاء آخر نستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته