سورة المائدة | ح 1008 | 62 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة المائدة يقول ربنا سبحانه وتعالى: "وترى كثيراً منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون". ينهى ربنا سبحانه وتعالى جماعة المسلمين عن هذه الصفات أن يسارعوا. في الإثم والعدوان وفي أكل السحت، وتعاون على البر والتقوى ولا تعاون على الإثم والعدوان. فأمرنا أن نتعاون على البر والتقوى، ونهانا
أن نتعاون على الإثم والعدوان. والإثم قد يكون خاصاً قاصراً، كمن اتفق مع زميله أن يجلسوا جلسة أنس يشربون فيها الخمر، أضروا أنفسهم ولم يضروا بغيرهم، لكن هذا. عليه المجلس وهذا عليه المقبلات وهذا عليه الخمر. تعاونوا ولكن على الإثم والعدوان لا يقتصر على الناس على الشخص وإنما يتعدى إلى الآخرين عدوان، فيتعاونون لخراب بيوت الناس ولإيذائهم في
السوق. يتعاون بعضهم مع بعض ضد شخص ليخرجوه من السوق، والنبي صلى الله عليه وسلم حذرنا من ذلك فقال: اتركوا. العباد يرزق الله بعضهم من بعض، وفي العمل يتعاونون سوياً من أجل أن يطردوا منه زميلهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يبلغ أحدكم مبلغ الإيمان حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، وكثير من العلماء، منهم الشيخ الشبرخيتي في شرحه على الأربعين، جعل الأخوة عامة. الأخوة عامة تعني ماذا؟ أي لا يشترط أن يكون مسلمًا،
بل قد يكون غير مسلم، إنما هي أخوة المكان والوطن والبقاء، فجعل الأخوة عامة. كثير من العلماء يجعلون الأخوة خاصة، ولكن أيضًا موجود أنهم يجعلون الأخوة عامة، فتكون إذن أخوة إنسانية. وكان هذا مذهب سيدنا علي رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فلما أن... أرسل الأشتر النخعي إلى مصر والياً عليها، والأشتر رضي الله تعالى عنه لم يصل مصر بل مات قبل وصوله إليها، لكن وجَّه
إليه كتاباً للأشتر مهماً. هذا الكتاب ينبغي أن نقرأه وأن نستوعبه وأن نرى الأخلاق فيه. طُبع في بدايات القرن العشرين في مصر مرات وعليه تعليقات لأدبائها وعلمائها ومنهم الشيخ. محمد عبده مفتي الديار المصرية رحمه الله تعالى يقول: علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال للأشتر النخعي وهو يرسله أميراً على مصر: "وإنك إذا دخلتها وجدت الناس على ضربين" يعني على نوعين: "أخٌ لك في الدين أو نظيرٌ لك
في الخلق". انظر إلى هذا الكلام: "وجدت الناس على نوعين يا..." إما أحدٌ مثلك في الدين الخاص بك أو أحدٌ مثلك في الإنسانية، وجلس يبين له كيف يتعامل مع خلق الله. هذا الكتاب يمثل الإسلام الصافي، يمثل ما فهمه الصحابة الكرام من الكتاب والسنة دون غموض ولا تشويش، بل أمر صافٍ هكذا: إن الناس صنفان؛ زميلك في الديانة وزميلك في الإنسانية. الوطن وهنا
يقول ربنا سبحانه وتعالى: "وترى كثيراً منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت". فيجب على جماعة المسلمين أن تنزه أنفسها من أن تتعاون على الإثم والعدوان، والسحت كله حرام. السرقة سحت، والاغتصاب والاختلاس وخيانة الأمانة سحت، وأيضاً الرشوة سحت. إذا أكل السحت، إذا شاع في المجتمع لم يكن... مجتمعاً متخلقاً بأخلاق الله سبحانه
وتعالى وما أراده منه، نبّه الله سبحانه وتعالى على أكل السُّحت، وبيّن رسوله أن أكل السُّحت يقطع العلاقة بينك وبين ربك، يا لطيف! فتأخذ تدعو فلا يُستجاب لك. قال: "ورُبَّ أشعث أغبر مدفوع بالأبواب، يمد يده إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام". حرام ومَلبَسه حرام وغُذِّي بالحرام، أنَّى يُستجاب لذلك؟ يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم سؤالاً متعجباً: أنَّى
يُستجاب لذلك؟ فيمدُّ يده إلى السماء [قائلاً] يا ربِّ، فلا يُستجاب له. لقد قطعتَ بيدك العلاقة بينك وبين ربك. تخيَّل أن إنساناً انقطعت العلاقة بينه وبين ربه، فلم يُستجَب له وهو ما زال يصلي. يصلي ويصوم ويزكي فتتحول عنده العبادة إلى عادة، هذه هي المصيبة، أي إغلاق القلب. تصبح العبادة عادة فلا تنهاه صلاته لا عن فحشاء ولا عن منكر،
ولا يؤثر فيه صوم ولا زكاة ولا حج، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش". إنما هل... أثر الصيام في قلبه هل وجهه إلى تقوى الله "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"، فالصيام هدفه تقوى الله. وإذا كان يصوم وليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، فسبب ذلك وأكبر السبب فيه أكل السحت، فلو أكل الإنسان السحت انقطعت الصلة بينه
وبين الله. وعندما تنقطع بينه وبين الله فإنه يشعر بالغربة ولا يشعر بأثر العبادة فيه. إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر. فلا صلاة تنهى لا عن فحشاء ولا عن منكر. وفي الحديث: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له، يعني لا صلاة مقبولة له لا بد. أن يستمر في الصلاة عسى الله سبحانه وتعالى أن يعيده إلى الحظيرة، ولكن لا يكون ذلك إلا بتحرير المطعم وبتحرير الأكل، أما أكل السحت وتقليد هؤلاء، قال تعالى فيه: "لبئس ما كانوا يعملون"، بئس من أفعال الذم،
بئس ما - يعني الذي - كانوا يعملون، وكفى بهذا الذم تنفيراً من أكل السحت. الذي شاع وداعاً في عصرنا، وإلى لقاء آخر، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.