سورة المائدة | ح 1024 | 71 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة المائدة يحكي لنا ربنا سبحانه وتعالى ما الذي حدث في الأمم السابقة، ما الذي حدث في أمم غيرنا وفي ملل سوانا من أجل أن نأخذ العبرة فنرى ما الذي يغضب الله سبحانه وتعالى فنبتعد عنه، ونرى ما الذي يحبه فيهم ويمدحه فيهم فنفعله، لأن ذلك يقربنا إلى الله سبحانه وتعالى. قصص القرآن الكريم وجداله مع الآخرين له أهداف منها أنه ينبههم إلى أنفسهم
لعلهم يرجعون، ومنها أن هذا القرآن هدى للمتقين، فيجب عليك وأنت تقرأ ألا تحصر نفسك في شيءٌ دون شيءٍ، بل عليك أن تقف أمام كل آية، وأن تعرف العبرة منها، وأن تجعلها موجهة إليك. ولذلك بالإضافة إلى المعلومة التي سوف يحكيها لك، خذ منها لنفسك، وهو أنك لا تفعل هذا، وأنك تفعل هذا من أجل رضوان الله سبحانه وتعالى. يحكي عنهم فيقول: وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ. فعموا وصموا واعتقدوا أن التفريط في أمر الله
وترك شرع الله وكتاب الله لا يترتب عليه شيء من ضياع مصالح الدنيا، وأن الأمور سوف تسير كما هي، وأنه لا بأس علينا من أن نسير في هذه الدنيا نؤمن في الظاهر ونترك شرع الله في الحقيقة. ظنوا هكذا، عقولهم ذهبت بهم. هذا المذهب وحسبوا، وكلمة "حسبوا" أي ظنوا وتوهموا وفكروا بالحساب، فأدى لهم هذا الحساب الظاهر إلى نتيجة خاطئة. ألا تكون فتنة؟ بالحساب
هكذا سيحدث ماذا؟ لا شيء. أنترك شرع الله ولا تكون فتنة ولا شيء؟ فعموا وصموا، بدأت أدوات التلقي في الخراب لهم، أعين يبصرون بها ولهم آذان يسمعون ما هو أول شيء؟ أنهم عَمُوا وصمُّوا عن شرع الله، فأصبح شرع الله في معزل عنهم وهم في معزل عن شرع الله. عَمُوا وصمُّوا، حسناً، وماذا حدث بعد ذلك؟ انظر إلى ما سيأتي: "ثم تاب الله عليهم". انظر إلى
الفضل الآن، الله سبحانه وتعالى مع هذا الجفاء، مع هذا الهروب مِن الله وليس إلى الله تاب الله عليه، ومعنى هذا أن الله توّاب، يعني كثير قبول التوبة من عباده. والنبي صلى الله عليه وسلم يروي: "يا ابن آدم، لو جئتني بقراب الأرض ذنوباً ثم جئتني تائباً لغفرت لك". وهذه صورة عجيبة غريبة، كلام يُكتب بالذهب، لأن الإنسان لا يستطيع في...
حياته المعتادة أن يرتكب ذنوباً بعدد ذرات تراب مترٍ مكعبٍ واحدٍ من الأرض الفسيحة، يعني أحضر متراً مكعباً من التراب. هذا المتر يعادل حمولة خمس شاحنات، فالشاحنة الواحدة تحمل خمسة أمتار، أي أحضر خمس شاحنات من التراب واجلس لتعد ذرات التراب فيه. حسناً، سيكون رقماً كبيراً، فأحضر لي معاصٍ بعدد معاصٍ بالرقم الذي ظهر أمامك، حسناً، ستقترف معصية كل كم من الوقت؟ كل ثانية سترتكب معصية، كل ثانية. احسب ثواني حياتك
حتى مئة ثانية، ستصل إلى رقم عشرة أمتار من التراب هذا. حسناً، أنت الآن من العيار الثقيل، لقد ارتكبت مصائب كثيرة. انتبه، أنت حتى الآن لم تعرف ماذا تفعل لأنك جئت بتراب الأرض كلها فهذا مستحيل، لأنه لا يوجد وقت، لا يوجد وقت للمعصية، ثم جئت تائباً فغفر له. أفلا يُحب سبحانه وتعالى؟ بلى إنه يُحب. أتتأخر في عبادته؟ والله أبداً، نحن الخاسرون. أتتأخر في
صلاتك؟ أتتأخر في الدعاء؟ أتتأخر في الذكر؟ لا تخرج هكذا من مالك للفقراء من أجله وهو الذي رزقك المال، والله لو تأملت جيداً وآمنت به يحصل لك حال مع الله سبحانه وتعالى. وحسِبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم. طيب، تاب الله عليهم فكان ينبغي أن يلتفتوا إلى الله ثم عموا وصموا كثيراً. منهم الأول كلهم عموا وصمّوا بناءً على تأويل عقل، بعد ذلك اتضح لهم أن هذا انحراف، فاستغفروا
ربهم وتابوا وتاب الله عليهم. وبعد ذلك ومن غير حسبان وبمحض الشهوة ومن غير تدبّر، عموا وصمّوا مرة ثانية. حسناً، سيعمون عن أي شيء إذاً؟ ويصمّون عن أي شيء؟ رقم واحد: عن الشريعة، اثنين عن مصلحتهم ونمرة ثلاثة عن الذي يحدث حولهم، إذ أن الذي لا يرى من الغربال يكون أعمى. فعندما يجلس الإنسان ويتدبر مع نفسه هكذا ويرى أن الأمور في تدهور وليست في تقدم، ويرى أن الإنسان من المعصية وصل إلى اللامعقول، ويرى
أنه ضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة. يأتي رزقها رغداً من كل مكان، فكفرت بأنعم الله، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون. ومن لا يرى شيئاً أمامه فهو أعمى، ومن لا يرى من الغربال فهو أعمى، ومن لا يسمع ضجيج القطار وهو قادم نحوه ليصدمكم فهو أصم. والله بصير بما يعملون. وإلى لقاء آخر، أستودعكم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته