سورة المائدة | ح 1027 | 74 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة المائدة يقول ربنا سبحانه وتعالى: ﴿أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم﴾. يفتح الله سبحانه وتعالى باب التوبة لكل الناس قبل أن يغرغر الإنسان عند طلوع روحه، فإذا غرغر... أُغلقت عليه أبواب التوبة، وقبل ذلك ولو للحظات فإنه يجوز له أن يتوب. والتوبة قد تكون من الشرك، وقد تكون من الكفر، وقد تكون من المعصية من كبيرها وصغيرها. فإن
الله سبحانه وتعالى يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات، ويغفر كثيراً. سبحانه وتعالى لا يناله منا ضرر، فهو الصبور. وهو العفو وهو الغفور، نحن في حاجة إليه وليس هو في حاجة إلينا. خلقنا وتفضل علينا وخلق أفعالنا ورزقنا وحدد آجالنا. نرجع إليه سبحانه وتعالى فينبئنا بما كنا نعمل وينبئنا بما كنا فيه نختلف ويحكم بيننا حكم العدل والحق. باب التوبة مفتوح والله سبحانه وتعالى إذا تاب العبد فرح به. فرحاً شديداً، أفلا
يتوبون إلى الله. والحديث الآن موجه لكل من نسي نفسه، لكل من انحرف عن طريق التوحيد لله رب العالمين، لكل من أعمى بصره عن أوامر الله وأصم أذنيه عن أوامره ونواهيه، وعاش هكذا في الدنيا كما قال الشاعر: نهارك بطال وليلك نائم، كذلك في الدنيا تعيش البهائم. التوبة مفتوحة للكافر ولغير الكافر، بل إنها مفتوحة للعاصي
وللطائع أيضاً. فإذا قلت: ما هذا؟ ما بال الكافر؟ فما بال الطائع، كيف يتوب؟ قالوا: توبة الطائع من السِوى. يعني ماذا؟ يعني أنا طائع أصلي وأصوم وأذكر، إنما يا أخي مشتغل بسوى الله، مشتغل بسوى الله. النبي يقول لي: إذا سألت... فاسأل الله وأنا جالس أسأل الناس، وإذا استعنت فاستعن بالله، وأنا أحسب للناس ألف حساب، أرجو منهم الخير وأخاف منهم الأذى والضرر. كيف أتوب إذاً؟ أنت تُب! أنت الذي عليك أن تتوب! الذي تعلق قلبه بغير الله يتوب من تعلق
قلبه بغير الله، غير الله ذلك الذي هو اسمه. ما الشريك مع الله يعني، الشريك الذي جعله قوم شريكًا مع الله. ما هو الشريك؟ فقال: توبة المطيع تكون من الشريك، أي تكون من الشريك الذي في قلبه. فإن الله سبحانه وتعالى أغنى الأغنياء عن الشرك، وإذا نازعته في قلبك بأحد سواه تركك وما تنازع. والقلب الذي يدخله الرب لا يخرج منه أبدًا. والقلب الذي يخرج يدخله الرب لا يحب أحداً معه، فتوبة الطائع من السِوى. يقول:
"أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه"، وهنا يعني نوع سؤال فيه حث. السؤال ليس على حقيقة الاستفهام وإنما المقصد منه الحث. ألم يحن الوقت بعد؟ ألم يأذن ربنا أن تُقلع؟ عما أنت فيه أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه، ثم يقرر حقيقة دائماً يقولها في النهاية وفي بعضها أن الله غفور رحيم. والله غفور رحيم، هذه حقيقة تدعوك إلى
سرعة التوبة، بل إنها تدعوك إلى أن تستحي من الله سبحانه وتعالى أن تفعل الذنب أصلاً، لأنك كلما فعلت الذنب كلما وكأنك تتمادى. منك استغلال لعفو الله ورحمته وغفرانه، وكان ينبغي عليك وأنت تعلم أن ربك كذلك أن تستحيي وأن تقابل ذلك بالشكر والعرفان لا بالمعصية والنكران. ولذلك لما أنبأ الله نبيه بأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قام الليل حتى تورمت
قدماه من طول المقام صلى الله عليه. وسلم وسألوه ألم يغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال أفلا أكون عبداً شكوراً؟ هذا هو التعليم العملي. فعندما يخبرك الله سبحانه وتعالى بتلك الحقيقة والله غفور رحيم، تستحي من نفسك أن تفعل المعصية. وعندما تقع في المعصية تسأل الله العصمة وتقول: يا رب أنا ضعيف، اعصمني من الزلل فإنه لا عاصم من الزلل إلا أنت، وفي بعض الأحيان يجري الذنب عليك من غير قصد ولا تدبير منك، فاعلم أن الله يريد
أن يورثك ذل الخضوع إليه، ويريد منك أن تستغفره وأن لا تتكبر بأعمالك. فلا تيأس، بعض الناس ييأس من روح الله، ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون. إلا القوم الكافرون، إذا وقعت في الذنب - وكل ابن آدم خطّاء - سارع إلى التوبة وبادر إليها، واقلع عن الذنب، واسأل ربك العصمة، فإنه لا عاصم من الذنوب إلا الله، ولا يكون في كونه إلا ما أراد. هذه آية عظيمة موجهة إلى الكافة، أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم. موجهة إلى الكافرين
وإلى المسلمين، إلى العصاة وإلى الطائعين، إلى كل أحد من أفراد الناس، ولذلك كان سيد الخلق صلى الله عليه وسلم يستغفر ربه في اليوم سبعين مرة، ويستغفر ربه في اليوم مائة مرة، وهو قد غُفِرَ له كل شيء وعُصِمَ من الذنب، لأنه كان له باب في قلبه. مفتوح على الخلق وكان له باب في قلبه مفتوح على الحق، فكان يستغفر من ذلك الباب الذي هو مفتوح على الخلق، ويقول إنه ليغان على قلبي، يعني غين أنوار لا غين أغيار، فأستغفر الله في اليوم مائة مرة. أخرجه مسلم، والسلام عليكم ورحمة
الله وبركاته.