سورة المائدة | ح 1029 | 75 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

سورة المائدة | ح 1029 | 75 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة - تفسير, سورة المائدة
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة المائدة وعند قوله تعالى: "ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون". ينبهنا ربنا سبحانه وتعالى إلى أن السيد المسيح عالي القدر لا يصفه بأي سوء ويطلب منا طلباً جازماً
وأمراً حتماً أن نؤمن برسالته ونبوته وأن نعظمه كما نعظم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فالإيمان بعيسى نبياً ورسولاً ركن من أركان الإسلام لا يستطيع مسلم حال إسلامه أن ينتقص أو أن يسب أو أن يكفر بسيدنا عيسى فإذا فعل ذلك مع سيدنا عيسى أو مع أي نبي من الأنبياء أو رسول من الرسل لم يعد مسلماً، شأنه شأن من كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم. فالإسلام أولاً أقرَّ الحقيقة، وثانياً عظَّم
ما من شأنه أن يُعظَّم، ودلَّنا على أن سيدنا عيسى المسيح ابن مريم، عاد القدر ثم إنه برَّأ أمه، ثم إنه برَّأ أمه عليها السلام من كل افتراء افتراه عليها اليهود. تكلم اليهود في كتبهم كلاماً قبيحاً على السيدة مريم وكلاماً قبيحاً على سيدنا عيسى، ولم يقتصر الأمر على تكذيبه بل إنهم وصفوه بكل نقيصة ونصوا على ذلك في التلمود
وعندما طُبع التلمود في القرن السادس عشر لاحظت الكنيسة أن فيه تلميحاً وفي بعض المواضع تصريحاً بسب السيد الشريف عيسى ابن مريم وسب أمه، فأحرقوا الكتاب وصادروه ومنعوه، واحتال اليهود فطبعوا الكتاب مرة أخرى وحذفوا الصفحات التي فيها السب، وبعد ذلك أخذ التلمود في الطباعة في ستة مجلدات. وفي كل الطبعات التالية للطبعة الأولى المصابرة حُذف
السب والقذف، إلا أن السب والقذف إنما هو في أساس هذا الكتاب. لا نجد مثل ذلك لنبي من أنبياء الله في كتب المسلمين، فالمسلم لا يستطيع من دينه، وليس من أي غرض سياسي أو اجتماعي أو فكري، أن لا يسب ثم يسب. ثم يسحب سبّه وذلك لسبب بسيط وهو أنه مؤمن إيماناً صادقاً يكمل به دينه أن هؤلاء كانوا من أنبياء الله. قال تعالى: "وأمه صدّيقة"، إذاً وصفه بالرسالة ووصف أمه بالصديقين، وهذا
لعلو شأنهما. ومن بلاغة القرآن أنه لم يأتِ بنقيصة مع هذا العلو. يعني نحن الآن في اتجاه العلوم ووصف. بالرسالة ووصف بالصديقين، لم يقل لكنهما، انتبه، لم يقل انتبه أنهما بشر، من أجل أن يترك إطلاق المدح جاء بشيء يُفهم منه اللازم ولا ينص عليه، فقال: "كانا يأكلان الطعام"، ماذا تفهم من هذه العبارة؟ نعم،
فكّر وافهم، لكنه لم يقل ولكن، يعني كان من الممكن أن يقول ماذا وأمه. صديقة ولكن كان بشراً ولكن هنا تحدث فرملة. أنت تمدحهم الآن وتبرئهم وتعلي شأنهم ثم تأتي لتقول "ولكن". ماذا يعني هذا؟ توقف، لا أحد أوقفك. قال لك: ابقَ، فوق ذلك. هو في العلوم والجمال. هذا في الحقيقة كان يأكلان الطعام ولم يقل "ولكن" حتى يكون "ولكن كان بشراً". لا، يأكلان الطعام. العاقل يعرف احتياجه، والعاقل يعرف أن
من أكل أخرج، وهذا محل نقص. ولو أن الإنسان مُنع من الإخراج يموت، ولو أنه مُنع من الطعام والشراب يموت، هذا هو الاحتياج. إذاً يلزم من كونهما يأكلان الطعام الضعف البشري، ويلزم منهما من هذا أنهما في احتياج دائم وأن هذا لا... يتناسب مع شأن الآلهة ولذلك فأي فرقة كانت في التاريخ بائدة عبدت السيدة مريم لم تكن على صواب، وأي فرقة تعبد سيدنا المسيح ليست
على صواب، بل هي مخالفة للتوحيد وللمعقول وللمنقول. انظر كيف نبين لهم الآيات من جانب، وانظر أنّى يؤفكون من الجانب الآخر، نظرة تتدبر بها الوضع الإلهي. ونظرة تتدبر بها الوضع البشري في الوضع الإلهي، كلام واضح مسلسل شامل، وفي الوضع البشري أوهام، كلام يضرب بعضه بعضاً، استنتاجات
المقصود منها الدنيا. ولذلك نرى كثيراً في عصر التنوير انتقدوا الحالة التي انحرفت عن زهد المسيح في الدنيا، المسيح لم يلبس الذهب، والمسيح لم يمسك العصيان الذهبي، المسيح كان... زاهداً في الدنيا وكان قليل الطعام قليل الكلام قليل المنام قليل الاختلاط بالأنام، أي من أهل التقوى. كان نبياً وكان معلماً. فلما
انحرفنا عن نهجه وسلوكه، انظر كيف نبين لهم الآيات، وانظر ثم انظر أنّى يؤفكون. وإلى لقاء آخر، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.