سورة المائدة | ح 1033 | 79 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

سورة المائدة | ح 1033 | 79 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة - تفسير, سورة المائدة
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة المائدة يقول ربنا سبحانه وتعالى، وهو يحذرنا أن نكون أمثال هؤلاء الناس، يحكي قصصهم ويأمرنا بالتكليف حتى نصل إلى التشريف. "كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا". يفعلون، فهذه الآية يدلنا فيها ربنا سبحانه وتعالى على أنه يجب علينا أن نأمر بالمعروف وأن ننهى عن المنكر، وأن من أسباب اضمحلال
حضارات الأمم أنهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه. وإذا استمر المنكر دون رقابة ودون تقويم ودون وضع برامج لمنعه، فإنه ينتشر كالمرض الخبيث في جسد المجتمع. وحينئذ تنهار الحضارات وهذه سنة الله في كونه والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم عذاباً" إلى يوم القيامة. لنحذر
حتى لا نقع فيما وقعوا فيه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له شروط، ومن هذه الشروط أنه يجب أن يصدر من عالم. بأن هذا من المعروف وأن هذا من المنكر، ولا يجوز لمن لم يكن في هذا المقام من العلم أن يأمر أو أن ينهى؛ لأنه لعله أمر بشيء ظانًا أنه من المعروف فيكون من المنكر، أو نهى عن شيء ظانًا بأنه من المنكر ويكون من المعروف، فالشرط الأول في
الآمر بالمعروف. والناهي عن المنكر هو العالِم، ومن أجل هذا الشرط اخترع المسلمون وظيفة المحتسب. والمحتسب كان هو ذلك الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر في حياة الناس، في الأسواق، في البيع والشراء، يراقب السلعة ويراقب إذا ما كانت مغشوشة أو سليمة، ويراقب المساجد، ويراقب الشوارع، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. والمحتسب... كان جزءاً لا يتجزأ من المؤسسة
الدينية التي يُوكَل إليها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن علم. وإذا كان المحتسب عند المسلمين، وقد ألَّف كثير من العلماء في شأن الاحتساب وفي كيفية الاحتساب وفي شروط الاحتساب كتباً كثيرة، وكثير منها طُبِع في عصرنا هذا، إذا كان المحتسب يرجع إلى المجتمع. فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يختص به، فهناك أمور واضحات معلومة من الدين بالضرورة، فالرجل في بيته يجب أن يأمر أولاده وأهله
بالمعروف وأن ينهاهم عن المنكر فيما يعلم، وإذا اختصموا في شيء فإنهم يذهبون إلى العالِم، فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون. الشرط الثاني للأمر. بالمعروف والنهي عن المنكر أننا ننكر المتفق عليه ولا ننكر المختلف فيه، فقد سمح الإسلام بتعدد الرؤى والمذاهب، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا حكم الحاكم فأخطأ فله أجر، وإذا حكم فأصاب فله أجران". فالذي أخطأ له أجر، والذي أصاب له أجران، وعلى ذلك فإننا لا
ننكر المختلف فيه. فإذا ذهب إمام إلى شيء وحكم وذهب إمام آخر إلى خلافه فإننا نبيح للمسلمين أن يتعبدوا بكل منهما ولا ننكر عليهما، والقاعدة المقررة التي نص عليها العلماء في الأشباه والنظائر والقواعد الفقهية: إنما يُنكر المتفق عليه ولا يُنكر المختلف فيه، وهي قاعدة مهمة جداً في حياة الإنسان في أسرته وفي... في نفسه وفي جماعته في المدرسة والمعهد والمصنع والمسجد، في أي جماعة يكون فيها الإنسان المسلم، لا بد أن
يكون منفتحاً لا يضيق صدره، واسع الأفق. فكما أنك تنفذ المذهب الذي ارتضيته والفتوى التي رأيتها مناسبة لنفسك، فإنك لا تضيق واسعاً على الآخرين. الشرط الثالث في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون رفيقاً. وقال النبي لعائشة: "يا عائشة، إن الرفق ما دخل في شيء إلا زانه، وما نُزع من شيء إلا شانه". يجب أن تكون النصيحة برفق، وأيضاً الشرط الرابع أن تكون بإخلاص وليس بتكبر، وليس بتتبع للعورات، وإنما رغبة منك في إصلاح الحال وتهيئة
حسن المآل. والإخلاص يقول فيه سيدنا الرسول: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، والشرط الخامس في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن لا يترتب عليه ما هو أسوأ منه. وكان الحسن يقول: إذا سرت في السوق فلا تقف أمام من شهر سيفه وقال: اتركني اتركني، ولا تقل له اتقِ الله. واحد ظالم يمشي في السوق ماسكاً... سيفٌ ويقول: "من سيأتي إليّ سأقطع رأسه"، فقام
شخصٌ وذهب إليه وقال له: "يا أخي اتقِ الله"، فرآه وقتله. فسيدنا الحسن يقول: "لا، أخطأتَ، هذا الكلام عندما تجد شخصاً مثل الأبتر وفي يده فعلاً سيفٌ، وليس سيفاً للعب، وهو فعلاً قادرٌ على أن يُلحق الأذى بك، فاتركه وشأنه". إلى الله سبحانه وتعالى، ربنا يهديه، يهدي، لكن لا يصح، ليس من فن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن تخرج إليه وتقول له: "اتق الله"، فيأخذ رأيك. هذا لا يصح، ربما هذا الكلام لا يعجب بعض الثوريين، فهناك أناس ثوريون، لكن هذا هو منهج السلف الصالح، كانوا يقولون: "أنتم تريدون... هل تعلمون ماذا كان
السلف الصالح يقول؟ ألا تريدون معرفة ما يقوله الثوريون؟ ها هم الثوريون جالسون يقولون ما يقولونه. "فجارات كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، لبئس ما كانوا يفعلون". إذاً، فلا بد علينا أن نبتعد عن هذا العمل الذميم البئيس، وهو أن نسكت عن الحق، ولكن بشروطه، فليس كل... لَيْسَ كُلُّ مَا يُعْلَمُ يُقَالُ، وَلَيْسَ كُلُّ مَا يُقَالُ جَاءَ زَمَانُهُ، وَلَيْسَ كُلُّ مَا جَاءَ زَمَانُهُ حَضَرَ أَفْرَادُهُ، وَلَا كُلُّ مَنْ حَضَرَ أَفْرَادُهُ حَسُنَ مَكَانُهُ، وَلَا كُلُّ مَا حَسُنَ
مَكَانُهُ صَحَّ حَالُهُ. وَإِلَى لِقَاءٍ آخَرَ، أَسْتَوْدِعُكُمُ اللهَ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.